15 سبتمبر 2025

تسجيل

التحالف العرفي والهروب للأمام !

27 سبتمبر 2011

تعبيرات عديدة تعني حدوث مأساة ولكنها تغلف المأساة بالسلوفان، كتعبير "التقدم للخلف" ويعني الانسحاب من المواجهة أو المعركة، أو تعبير "الهروب للأمام" ويعني المزايدة علي متطلبات المهام هروبا من المسؤولية وما تفرضه من تضحيات. الهروب للأمام يكاد يكون أقرب وصف لحالة التيارات والأحزاب والمجموعات والنخب في مصر الآن بعد ثورة يناير وما ترتب عليها من علاقات "عرفية" بين كافة الأطراف أدت إلى أن يفعل كل منها ما يحلو له، في حدود وعيه وحاجته هو، دون الالتزام بما تفرضه الفترة الانتقالية من مهام. بلغت الأوضاع في مصر حالة الأزمة التي تشارف على الانفجار، وهو تداعٍ غير متسق مع وقائع 25 يناير وتضحيات الشعب خلالها. تبدو مواقف الأطراف خارجة على النص بالتعبير المسرحي، والأقنعة تتساقط واحدا تلو الآخر لتفضح حقيقة الأوجه، ولا أحد يفسح الفرصة لالتقاط الأنفاس ويسأل هل ما وصلنا إليه هو ما كان الشعب ينشده؟ أم أن انحرافا ألم بالطريق ؟ وهل الانحراف هو قصد مبيت أم أنه أخطاء وأعباء حالت دون الحفاظ علي المقاصد الشعبية وتحقيقها؟. بعد 12 فبراير تولد شك بأن هناك اتفاقا "عرفيا" بين الإخوان والمجلس العسكري نتج عنه عوار في تشكيل لجنة البشري وما أسفرت عنه من إجهاض لمهام الفترة الانتقالية وتجاوز وجوب وضع دستور جديد، وتحويل الثورة إلى حركة مطلبية لتعديل الدستور. وقال البشري في حديث "للجزيرة مباشر مصر" إن مهمته كانت التعديل الدستوري كما كانت مهمة لجنة سبقته شكلها الرئيس السابق، ولكنه زاد عليها تعديلين بإضافة الفترة الزمنية والانتخابات، ويستطرد قائلا وكأنه يضع مبررات إدانة ما فعله :"إنها ثورة شعبية وكان الجيش شريكا فيها، وإنها تسقط دستور 1971 سياسيا"!. أي أن الثورة في وعي هذا التحالف العرفي تحولت إلى حركة مطلبية لتعديل شروط تداول السلطة. وأن التعديلات التي رفضها الشعب من الرئيس السابق ولجنته أعاد البشري إنتاجها من جديد. خلال الأسبوعين الماضيين خرجت تهديدات من الأحزاب الدينية بالاعتصام والتظاهر ومواكب الشهداء، مما يشيرإلى أن الاتفاق الذي جمعهم والمجلس العسكري أصابه خلل ما. وصرح البشري "بأن أي إعلان دستوري جديد من المجلس العسكري غير شرعي ويستوجب الاستفتاء عليه"، ولعلنا نذكر بأن العالِم والمفكر لا يحده تنظيم ويسمو فوق الأنانية ... ولكن العالم والمفكرعندما تحده سلطة غير ضميره يخون علمه ويفقد قيمته، ويتحول إلى أداة، لا تقبل منه شهادة ولا يستساغ منه أن يحكم فيما يجري من أمور ومشاكل. هكذا استن هذا التحالف مبدأ "الهروب إلى الإمام" من التزامات التغيير الذي نادت به الثورة، الأمر الذي استدعى حالة من المقاومة بمظاهرات متتالية للحيلولة دون وأد مطلب التغيير. وشهد الأسبوع الماضي انضمام كافة الأحزاب غير الدينية إلى هذا التحالف بقاعدة الهروب للأمام، وجرى تحوير شعار الثورة "عيش حرية عدالة اجتماعية" إلى "أمن عيش حرية"، وبذلك أسقطوا هدف العدالة الاجتماعية، وتزايد الطنين حول الانتخابات بالقائمة النسبية فقط، والمطالبة بإلغاء نسبة العمال والفلاحين. صار واضحا أن الأحزاب الدينية وغير الدينية والتجمعات والنخبة توافقوا لأول مرة بعد الثورة علي أمرين: الأول "ضد" ... إن الخصومة صارت مع المجلس العسكري، مع تنوع الأسباب، سواء رفض أي إعلان دستوري جديد، ورفض تحديد معايير تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، أو رفض تمديد الطوارئ ورفض المحاكمات العسكرية. والسؤال الملح في هذه اللحظة هو :هل الصدام مع المجلس العسكري هو البديل الوحيد، وهل هو ضروري للثورة؟ أم هل هذا الصدام يحاول الفصل بين الجيش والشعب في لحظة من أدق لحظات المرحلة الانتقالية لحاجة في نفس يعقوب؟ ثم من هو يعقوب هذا في حالتنا هذه؟ ولكن أليس المجلس العسكري يساهم أيضا في هذا بما أطلقنا عليه "التباطؤ إلى حد التباطؤ"؟ الكل يسعى إلى الانفجار!. الثاني أنهم وحدهم لهم حق الولاية علي الانتخابات وغير مقبول الجمع بين القوائم والفردي، وليس لديهم أي مبرر لذلك، فالحياة الحزبية في مصر قبل الثورة وما لحق بها بعد الثورة لا تمثل واقعا يمكن حصر الممارسة السياسية داخله رغم وجاهة فكرة القوائم النسبية عندما تصح الحياه الحزبية، ورغم وجاهة أن تطهير الحياة السياسية من النظام السابق كان يجب أن يشمل الأحزاب جميعها وليس فقط الحزب الوطني، وتاريخ الأحزاب يؤكد حقيقة أن الشعب في ثورته كان متجاوزا الجميع. وهنا يفرض الواقع سؤالا ملحا ، ما معنى أن اللحظة تاريخية لفرض الشريعة الإسلامية كما أعلنت القيادات السلفية؟ وأي ديمقراطية يسعون إليها؟ وهل هناك خطأ في تمرير أحزابهم خاصة وأن هناك حديثا أن مصادر تمويلهم غير مبرأة من أهداف بعيدة عن طبيعة الشعب المصري؟ وهكذا اتسع التحالف ليشمل كل من يمارس الرطانة السياسية في مصر ومعهم المجلس العسكري، رغم مظاهر للاختلاف إلا أنه اختلاف في التفاصيل وليس حول مهام التغيير في الفترة الانتقالية. وصار الشعب الذي دفع ثمن الثورة وضريبة الانفلات الأمني، رهينة توافق التحالف العرفي. في أعقاب ادعاء مهاجمة مديرية أمن الجيزة ليلة 9/10 سبتمبر، ومقتل 5 مواطنين بالرصاص الحي وإصابة قرابة 1000 مواطن، لم نسمع عن تحقيق في أمر القتلى والمصابين، ولكن أعلن وزير الداخلية تصريحه الشهير "يحق للشرطة الدفاع عن نفسها"، أي أن هناك للشرطة "نفسها" وهناك المجتمع، حديث "ضد" آخر. والعيسوي هو ذات الشخص الذي أعلن على غير الحقيقة والواقع أن الداخلية ليس لديها قناصة، ولم يتحدث خلال الفترة الماضية عن "واجب الشرطة في حماية أمن المواطنين". ظلت الشرطة بعد 12 فبراير ترفض القيام بمهامها، وأظهرت حوارات معهم أن عقيدتهم "حماية النظام"، وعندما يكون هناك نظام، ستبدأ المهام الشرطية، وصارت الشرطة في حالة إضراب عن أداء وظيفتها، وتردد منهم قول "خلِّي الثورة تنفعكم" كلما توجه مواطن يطلب موقفا أو حماية، الأمر الذي أدى إلى انتشار الجريمة المسلحة والسرقة وقطع الطريق وسرقة السيارات وفرض اتاوات لإعادتها تحت سمعهم وبصرهم. تضمن شعار الثورة كلمتي "الخبز ـ والعدالة الاجتماعية" تأكيدا أن هناك ما هو عاجل وما هو مستقبلي ويحدد طبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي البديل ويؤدي إلى استرداد الثروة الوطنية التي أهدرتها الخصخصة والفساد والنهب المنظم للثروات الطبيعية ويضع في الوقت نفسه نهجا للتنمية والعدالة الاجتماعية. وتصاعد الإضرابات الفئوية دلالة عجز عن تحقيق هدف "الخبز" والعجز عن مواجهة التوحش في الأسعار والغلاء الذي يقضي علي أي زيادة في الأجور تدعيها الحكومة التي تدير المرحلة الانتقالية، وتولى القضاء الإداري مهمة استرداد الشركات التي جرى بيعها. ولم تتحرك الحكومة والأحزاب والنخب في اتجاه بحث علمي حول حل مشاكل المجتمع الاقتصادية العاجل منها والمستقبلي. هذا العجز، واكبه علي جانب آخر يد مطلقة للرأسماليين الذين تكونت ثرواتهم في ظل النظام السابق، وصارت الأموال المكدسة لديهم هي وقود الحركة المضادة للثورة، يدهم مطلقة بينما تجري محاكماتهم في قضايا قتل الشعب وفق قانون الجنايات والذي يفرض وجود أدلة قطعية وكأن ما عاشه الشعب كان كابوس ليلة شتاء طويل. ويمارس الإعلام الذي تديره حكومة تسيير الأعمال مهمة "جوبلز" الشهيرة في الدعاية وفق حملة منظمة لتفريغ الثورة من دلالاتها، ويتولى أمر تشويه كل تصرفات الشعب، وتحميلها كل صور العجز الأمني والافقار المعيشي، وكأن جهاز الإعلام شأنه شأن جهاز الشرطة فوق المراجعة وإعادة البناء. التحالف العرفي وإضراب الشرطة والأموال المنهوبة هم أضلاع مثلث كان يواجه الثورة والشعب ويخدمه الإعلام أداة التشويه والدعاية المضادة للثورة، ويكاد يصل هذا الثالوث بالمجتمع إلى حافة الانفجار لتفاقم الصراع الداخلي فيما بينهم، فبينما كل أطرافه تتحدث عن الديمقراطية والانتخابات وتوقيتاتها ونظامها وأنواع المحاكمات المقبولة والمرفوضة وشرعية الطوارئ من عدمها، غير أنه ليس بالحوار المسئول ولكنها لغة تهديد ووعيد، حيث بلغ غرور القوة حد الانتحار، والابتزاز للوطن والمغامرة به حد المقامرة. المشهد الآن :هناك صراع علي السلطة يجري في العلن، اعتقادا من أطراف هذا الثالوث أن الثمار قد نضجت وحان قطافها، ويبقى سؤال أخير هل أسدلت ستارة النهاية علي ثورة الشعب المصري؟. لا ينكر أحد أن حالة الاكتئاب تتزايد بين الشباب والجموع الشعبية التي صنعت أيام الثورة، ولكن لا يملك أحد أن يقضي بأن ستارة المسرح قد أسدلت، وهو ما يفرض مراجعة أمينة لقوى الثورة الحقيقية، وللمهام المطلوبة منها. وقد يقتضي هذا البحث عن الخطوة بعد القادمة، وما هي أهدافها؟. فإذا كانت الخطوة القادمة هي حشد يوم 30 سبتمبر، فهذه المعادلة تفرض وضع بدائل لتصعيد العمل من حيث الحشد والأهداف. وإذا كانت الخطوة القادمة هي الانتخابات فكيف نرى أفق الحشد والأهداف بعدها؟. إن صخب اللحظة في الاقتتال الدائر على كافة الموضوعات الثانوية (بما فيها الانتخابات)، لا يجب أن يأخذنا بعيدا عن دراسة علمية لمعنى إعادة بناء جهاز الشرطة والتجارب السابقة في هذا الصدد، وهو عنوان لمؤتمر علمي يمكن عقده لنملك تصورا ماذا نعني بإعادة البناء. كما أن البحث عن النظام الاقتصادي البديل تحت عنوان التنمية والعدالة الاجتماعية يحتاج إلى حوار علمي لدلالاته وخططه، وهو موضوع لمؤتمر آخر لنملك رؤية وتصورا لما نعنيه بهذا. الثورة لم تكن إشاعة، وتأكد خلال الأشهر الماضية أن الشعب ليس كما صفريا، وتجاوز التيارات السياسية والأحزاب، وكسر حاجز التردد والخوف، وتأكد أن إرادة الشعب جزء من إرادة الله، وأن الشباب ليس عبئا على الوطن وأهله. لم يعد هناك شيء يمكن إخفاؤه في الظلام وتجاوز الشعب التخمين إلى الإمساك بالواقع وحقائقه، وتعدلت الأوزان النسبية داخل الوطن، وانكسرت كل التابوهات. انكشف كل المحيط بنا، وظهر للعيان أن الشعوب أكبر من الأموال ومن السلاح ومن الأجهزة السرية، وأن للتاريخ حركته التي لا ترتبط بنظام عالمي ولا بتشوهات في الجغرافيا، ولكنها ترتبط بحقائق التاريخ إن وجدت من يستطع الحركة لصالحها، وهروب السفير الإسرائيلي دلالة علي ذلك. هذه النتائج جعلت الوطن قضية كل الشعب، وأنباء المظاهرات الشعبية التي ترفع شعارات اجتماعية في مناطق مصر تدل أن هناك حراكا يتزايد ... الثورة بدأت ولكنها لم تكتمل نتائجها، ومحاولات الإجهاض لن تتوقف، وهروب الحلف العرفي إلى الأمام لن يضمن له البقاء، ومحاولة تفجير المجتمع ستطيح بهذا الحلف قبل أن تكتمل، ويبقى أن وحدة قوى الثورة والعمل والوعي واجب للحيلولة دون كسر الإرادة.