10 سبتمبر 2025

تسجيل

دائرة الطباشير المصرية

27 أغسطس 2013

موجات الثورة المصرية المتعاقبة بقدر ما فاجأت الإنسانية وامتلكت المبادأة، بقدر ما استفزت كل من له هوى أو خصومة مع مصر الشعب والدور والإمكانية. الاستغراق في مجرد قراءة المشهد الداخلي في مصر، يُفقد القارئ القدرة على تحديد عناصر القوى داخل الصراع وبالتالي يُفقده القدرة على التقدير الصحيح للموقف، وهي بداية لافتقاد الإدارة الصحيحة وتداخل الغايات والأهداف. وعندها يستمر نزيف الجهد والعرق والدم والدموع. العالم لا يترك مكانا يتحرك بعيدا عن سيطرته ووفق مصالح تتباين وتتعدد، ولكنها ذات مراتب متتالية القيمة، فالمصالح لمن يملك القوة أعلى في الترتيب، وتتقلص نسبيا مع تقلص القوة، والقوة هنا ليست مجرد القوة العسكرية، ولكنها بالأساس قوة النمو الاقتصادي واستقلاله وتوافر عناصر الإنتاج والأسواق والقدرة العلمية، ومن هنا صار الأمر يتجاوز عصر الكشوف البحرية، إلى عصر استقرار الخرائط الجيوسياسية، وكل محاولة تهدد هذا السكون الاستاتيكي يتم التعامل معها بلا ضابط وبلا هوادة، بدءا من محاولات الاستقطاب وتفريغ المضمون، وصولا إلى استخدام القوة العسكرية، وفرق القتل. قدر مصر لم تختاره، ولكن فرضه موقعها وتاريخها وتأثيرها، فنطاق أمنها يمتد من الإسكندرونة إلى منابع النيل بل ويتأثر بكل إفريقيا، ويمتد من غرب الهند ويمتد إلى الأطلسي، وليس هناك تجاوز أن تأثير مصر وصل إلى أمريكا اللاتينية، سواء بجيش إلى المكسيك أو بأفكار الاستقلال الوطني والتحرر، وكانت حركة "الحياد الإيجابي وعدم الانحياز" دلالة دور في زمن الحرب الباردة. هذه الأبعاد لم تحدد تأثير مصر في نطاقها الإقليمي فحسب بل جعلت منها رمزا يمكن أن يحتذى. فليست مصر من دول الطاقة التي يحرص العالم على السيطرة عليها، ولا هي من دول القدرة العسكرية والأطماع التي يجب الحذر منها، ولكنها قوة الإنسانية الكامنة فيها، والقدرة التي ما إن تخرج من عقالها حتى تؤتي أثرها دون أن تستهدفه، من دون سلاح القتل أو الحملات العسكرية. موجات الثورة المصرية ثلاث، كان المشترك بينها أنها موجات شعبية تتجاوز ما سجله التاريخ الإنساني من حركات الشعوب ضد الاستبداد، وتعددت غاياتها إضافة وليست إحلالا واستبدالا، وفرضت على أطراف الصراع داخليا وخارجيا استبدال التكتيك والأدوات لخدمة إستراتيجية واحدة "عودة الإرادة الشعبية إلى محبسها وإجهاض احتمالاتها المستقبلية"، وتعددت دوائر الطباشير التي يجرى محاولة حبس مصر داخلها حسب التطور، ووجدت ألوان الطباشير الزاهية طريقها إلى أعين في الداخل أثبتت حركة الشعب وتنوع المواجهات، إنها أعين لقدرات لا ترقى إلى ما وصلت إليه الإرادة الشعبية، قدرة ووضوحا وتضحية، وأثبتت موجات الثورة الثلاث ضمور الحياة السياسية في مصر وعدم قدرتها على التطور، وصارت حركة أقوال وحناجر وليست فعلا منظما على الأرض، يمسك بالأرض بقواعد راسخة، ويمتد بامتداد قواها الاجتماعية، فصارت القوى السياسية والنخب والمتكلمة هم "كعب أخيل" الثورة الشعبية في مصر. موجة يناير 2011 هي الموجة الأولى، موجة احتجاج طورتها الإرادة الشعبية إلى ثورة شعب، وقبل أن تسقط رأس النظام، أسقطت ادعاء ظل الكثيرون من النخب يرددونه من علٍ بأن الشعب استسلم، بل ووصموه بالموات، ولكن هذا الشعب فاجأ العالم بجيل جديد كان رأس حربة الثورة، أبدع آلية الاحتشاد والاستشهاد فهزم الموت وسيلة لقمعه، كسر الشعب حاجز الخوف، واسترد ثقته في القدرة على التغيير. أطلقت أمريكا بعد استيعاب المفاجأة، مقولة "سرعة نقل السلطة إلى حكومة مدنية"، وكانت هذه دائرة الطباشير الأولى لحصار الإرادة الشعبية، وبدلا من إنجاز مهام المرحلة الانتقالية لاستكمال تغيير النظام، جرى إحالة أوراق التطهير إلى ساحة القضاء، ووجدت أمريكا ضالتها في جماعة الإخوان المسلمين ــ تكشف المعلومات المتاحة الآن أن العلاقة بينهما سبقت الثورة بأعوام كثيرة لم تتحدد بداياتها، ولكنها كانت على الأقل أعواما ثمانية. ظل الشباب يقدم الدم والشهداء دون أن يدرك حقيقة اختطاف الثورة، وتجاوز أهدافها، وإن كانت الشكوك تساوره بحجم المواجهات وطبيعة المسار الذي وضعته لجنة البشري. وجاءت الموجة الثانية وخرجت الجماهير بأعداد وصفت بأنها لا مثيل لها في التاريخ الإنساني، وكانت دروس الثلاثين شهرا السابقة واضحة للعيان. 30 يونيو 2013 لم يكن وليد صدفة، ولكنه كان بناء ينمو على محورين، الأول الكيانات السياسية وانعدام العصب التنظيمي الجامع لحركة الشعب، والمحور الثاني أن قيادة القوات المسلحة اختلفت من حيث الوعي والإدراك لحقائق ما يجرى فوق الأرض، وانحازت إلى جانب الشعب في مواجهة سلطة الإخوان. إذا وصفت الموجة الأولى بأنها الثورة، والثانية بأنها استرداد الدين والهوية والدولة، فإن الموجة الثالثة، 26 يوليو 2013، هي موجة المبادأة في مواجهة أمريكا والغرب، هي موجة الاستقلال الوطني، وكسر كافة الأسيجة التي تحاول أن تحبس الإرادة الشعبية، وهي موجة كشف عمق التربص بمصر من الداخل بالإرهاب وأصحاب أكلاشيهات الديمقراطية دون محتواها، والذين يبحثون عن مبررات الوجود السياسي على حساب الوطن. لم يعد مجديا لأمريكا والغرب أن يضع دائرة طباشير يحيط بها العقل والإدراك، فقد تلقى ضربة في أداته لتغيير الواقع العربي، وانكشفت أوراق اللعبة، ولم يجد من يذعن له رغم الاستماع لما يقوله ولحملاته الإعلامية، وانكشفت تركيا بأنها أداة أخرى ترفع ذات الشعارات وتعاند مصر، وتحطم حلم تركيا في استعادة إمبراطورية معاصرة بعد أن هدم أتاتورك إمبراطورية "تنابلة السلطان" في اسطنبول، وكأن مصر تأخذ بثأر معركة مرج دابق، وبثأر محمد علي. وبدأت أمريكا لعبة وقف المعونة العسكرية ولم تصل بعد إلى الحصار وبدأت مسار مجلس الأمن والتحركات العسكرية في المنطقة على نطاق عملياتي، متذرعة بأحداث سوريا، والاستعداد لتوجيه ضربة صاروخية لنطاق الأمن المصري الشمالي في سوريا، وكل هذه الإعلانات تدرك أن وجود روسيا في سوريا عائق رئيسي لتوجيه هذه الضربة، بل إن السبب الذي ترتكن عليه بأن النظام السوري وجه ضربة بسلاح كيميائي فندته روسيا ولجنة التحقيق الموفدة من الأمم المتحدة. وكان معامل الاستفزاز الأكبر لأمريكا والغرب حالة التنادي العربي التي قاربت موقف 1973، ومازالت الحالة العربية قابلة للنمو، ولكن المواجهة الحقيقية الآن تتمثل في احتمالات التدخل الخارجي سواء بالحصار أو بالقوة العسكرية، وعندها سيضاف إلى انتحار جماعة الإخوان عندما نادت بالدم أو السلطة، انتحار جديد للإدارة الأمريكية في المنطقة العربية. هل يمكن أن تبلغ الحماقة بالإدارة الأمريكية إلى خوض مغامرة عسكرية مع مصر؟ سؤال بالقطع يقفز فوق بدائل متعددة يمكن أن تستخدمها. أمام أمريكا الحصار، وليس بالضرورة إعلانه، ولكن يكفي التباطؤ في المعاملات، فمصر احتياجاتها الخارجية مصدر تأثير على الحياة اليومية لشعبها وهو ميراث النظام الذي ثار عليه الشعب. وأمامها الحرب الخفية، وإن كانت قد بدأتها بالسفيرة الأمريكية باترسون، فإنها تكمل بالمرشح لخلافتها فورد وهو أحد رجالات نيجروبونتي في فرق القتل الأمريكية أو الإرهاب بوجه إنساني كما وصفها البروفيسور مايكل شوسودوفسكي في دراسة نشرت على موقع "جلوبال ريسيرش"، والغريب أيضاً أن مساعد السكرتير العام الذي أوفده إلى مصر "فيلتمان" هو واحد من نفس مجموعة نيجروبونتي، وكأن مصر بموجة 26 يوليو أخرجت أسوأ ما لدى العالم ليصل للقاهرة حاملا أغصان الزيتون والحرية والديمقراطية، بينما فيلق الإرهاب من الجماعات الإسلامية الذي صاغته المخابرات الأمريكية وترعاه، يمضي في مسلسل الدم بمصر. ومازال أمامها الدفع بدماء جديدة لمعركة الإرهاب، فقد جرى تداول فتوى من دار الإفتاء الليبية لم يتم التأكد من مصدرها بعد، تقضي بوجوب قتال الجيش المصري، فهل هي باكورة التجنيد هناك لزاد جديد يفتح جبهة في الغرب، خاصة وأن الغرب هو المصدر الرئيسي للسلاح، وجرت عمليات ذات نمط مخالف لنمط القتل والعدوان على المنشآت، حيث أضيف تفجير شريط سكك حديدية يربط بين مرسى مطروح والإسكندرية، وهناك أقوال عن وجود معسكر للتدريب لما يطلقون عليه "الجيش الحر" في شرق بنغازي. وهل يفتح هذا أمام الجيش المصري مهمة عسكرية في شرق ليبيا لتأمين الحدود الغربية ووقف عمليات تهريب السلاح أو معسكرات التدريب، أم أن مصر أيضاً ستتدبر الأمر الأمني بوسائط أخرى دون الدخول في عمل عسكري. ومازال أمام أمريكا البديل التركي الحمساوي، وبدلا من أن تقوم حماس برعونة بالاشتباك مع مصر، تصبح غزة نقطة ارتكاز لتركيا، وبذات الجماعات الإرهابية، وبتنوع جديد في السلاح والتدريب والإدارة. ولا تعدم أمريكا ما يطلقون عليه أصدقائهم في السودان، فهل يمكن أن تمثل الحركة من الحدود الجنوبية بديلا آخر. كافة هذه الاحتمالات ظهرت عندما تأكد أمام أمريكا والناتو أن مصر عصية على الإذعان، وتبين لهم أن جماعة الإخوان التي اعتبرتها روسيا من قبل جماعة إرهابية وهاهي السعودية تعلن نفس الموقف، تلقى نفس المصير شعبيا في مصر، رغم إرهاب الطابور الخامس الأمريكي الفكري في مصر والذي يستغل كل فرصة للحديث عن إمكانية قبول من جديد لجماعة استعانت بالخارج ضد شعبها وهي لا تعدو أداة في يد أمريكا والغرب. هكذا تتعاظم مهام المرحلة الانتقالية ويضاف إليها احتمالات الحرب. وفي حالة الحرب يجري قياس الأمور والمواقف والكلمات بغير موازين حالات السلام أو حتى الفترات الانتقالية بعد الثورات. ليست مشكلة مصر أنها تستخلص إرادتها الوطنية لتبني المستقبل، ولكن مشكلة مصر قدرها، وأن ما سيتحقق فوق أرضها سيمتد أثره خارجها. كسر الشعب كافة دوائر الحصار الطباشيرية، وجعلهم يخرجون علنا لمواجهة إرادته، وهكذا دائما معارك الاستقلال والتحرر عندما يقرر الشعب أعمال إرادته، تكشف للعيان حقيقة المواجهة دون تجميل أو تزييف.