17 سبتمبر 2025

تسجيل

مشهد

27 يونيو 2016

حين نقلنا نيشان من حي: دار السلام، لم يكن في حالة تسمح بإسكانه بيتا في هذه الليلة، وعرضه على متخصص في الصباح، ونحن في العربة كان متورما، وبذيء اللسان، يقاوم قيد الحبال القوي لينفلت، ونجح إلى حد ما، في إخافة "أفرنجي" وزحزحة قناعاته، في إمكانية حراسته والاعتناء به بأجر. شاهدت قاهر الجن كما يقول، وصديق الجنية دلدونة، يتلفت فزعا، ويحك ذقنه بأظفار متسخة، سمعته يخبرني بضرورة الإسراع، وفي تمتمة خاصة، وبصوت شبه مسموع، كان يثني على تلك الخرقة الممزقة، التي يتوسدها في سوق عائشة كل ليلة. أفرنجي لن يقبل بالمهمة كما بدا لي، ولن أضغط عليه حتى لا يفر من صحبتي وكنت أحتاج إليه في خدمات كثيرة، ما طرأ على بالي في تلك اللحظة، هو أن أمنحه البيت المؤجر، وأخبره صراحة بأنه سيكون لنيشان حالما يشفى من مرضه. حين استأجرت خدمات أفرنجي، في البداية، لم أخبره بقصة التخاطر التي قادتني للاهتمام بنيشان، لأنني أعرف تماما بأنه لن يستوعب غموضا كهذا، هو يعرفني مدرسا قديما، في مدرسة كان يعمل فيها ساعيا، يعرفني كاتبا متفرغا في الوقت الحالي، ولم تسمح له ثقافته المحدودة، ومعرفته الضالة باللغة التي أكتب بها، أن يقرأني ولا أظنه سيقرأني حتى لو امتلك الثقافة واللغة كاملة. قلت له في حينها بأنني أقوم بواجب إنساني لشخص أعرف أهله، ولم يطرح سوى الأسئلة الخاصة بمرض الرجل وشخصيته.لقد وصلنا بنيشان، أو "ن ح ن" كما سميته في ذهني، لأن اسمه الطويل العريض، ابتدأ يرهقني حين أنطقه أو أفكر فيه إلى المستشفى، كان لا يزال مورما بالأعراض، ما زال يقاوم حبل أفرنجي القوي، يسأل عن عسكري متمرد في جيشه النظامي، يستحق القتل، وذبابة صعلوكة لا تتركه ينام، ولفت أكثر من مائة نظر متجول، ونحن نعبر به الشوارع أو نتوقف في شارات المرور الحمراء، كلمت الدكتور شوقي هاتفيا بمأساته ومأساتي ونحن نعبر بالطرق، وكان شهما في فهم المأساة عند حد الفصام العقلي، ولم يرد أن يخوض معي نقاشا في مسألة التخاطر، إما لأنها خرافة في رأيه، أو لأنه لا يستوعبها، وربما يسعى لاستيعابها مستقبلا. نيشان قوبل بالترحاب القوي، عند باب المستشفى، حملوه على محفة نظيفة، إلى غرفة منعزلة، لا يسمح نظامها الأمني الصعب، بمرور ذبابة تافهة، من دون أن تحمل إذنا بالمرور. شاهدته ملقى على سرير أبيض، وثمة محاليل معلقة على ساعديه، أو تركت على طاولة بجانبه، في انتظار أن تعلق. شاهدته هادئا ونائما، وما عاد ثمة مخاط يسيل من أنفه، ولا ريالة مهووسة، تتلاقح في فمه، ولو كان ثمة حلم يداعبه الآن، فلا بد أن يكون حلما ورديا يخص رنيم، المعشوقة المهاجرة، أو محكمة ضاجة بالمحكومين والشهود، يدير جلساتها بوصفه قاضيا.