29 أكتوبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); لم تعد مواجع البؤساء والمنكوبين تبعث على الحزن، والإحساس الصادق بالمعاناة، ربما بسبب كثرة الأزمات التي تتابعت على البشرية كتتابع القطْر، فألف الناس –لاسيَّما في عالم الإسلام- مناظر الدمار، وشلالات الدماء، وصور المآسي من كل جنس، والألفة كما يقولون تورث بلادة الحس، وتعطل نعمة التفكير، وهذه حالة من أسوأ الأحوال التي يمكن أن يبتلى بها إنسان.الأحوال السيئة شأنها شأن بعض الفيروسات التي تهاجم الجسم، ثم تأخذ أشكالا من التطور يحار فيها الأطباء، فتطورت حالة الجمود تجاه مآسي الآخرين، إلى حالة متحركة وهي تحويل هذه المآسي والأزمات إلى تجارة عالمية يتنافس فيها التجار تنافسا محموما، يزيد الربح وينمي الثروات، بعد أن فتح الغرب شهيتهم بكثرة العرض وتنوع البضائع! فوجد كل صاحب حرفة وعاطل من الناس مكانه في هذا السوق الرائج.أما المنظمات الدولية التي تعمل من أجل الإنسانية وتخفيف معاناة الجائعين والبائسين، أو هكذا زعموا، فقد أحسنت استغلال ما أتيح لها، ووظفت ببراعة كثيرا من مشكلات الناس وأزماتهم إلى خدمة أجندة خاصة، والإحصاءات المنشورة تبين لنا كم هي نسبة الأموال التي تذهب لجيوب مديري هذه المنظمات، وزيادة أرباحها، مقارنة مع ما ينفق حقيقة على المشاريع التي جمعت هذه الأموال باسمها، جاء في كتاب (سادة الفقر) لمؤلفه جراهام هانكوك أن برنامج (الجوع الأميركي) تسلم هبات تصل إلى سبعة ملايين دولار في عام 1985، لم يصل منها سوى ربع مليون دولار فقط للدول المنكوبة، وما نشاهده في بلادنا هذه من عربات فارهة وأبنية فخمة وإمكانات مهولة للمنظمات الدولية ووكالات الغوث الأجنبية ماهي إلا صورة من صور المتاجرة بأزماتنا، لأننا نعلم يقينا أن هذه الجهود الضخمة والأموال الطائلة إذا قدر لها أن تنفق في العمل الإنساني لما بقي في هذا الكوكب جائع.وإن من أبشع أنواع الاستغلال لأزمات الناس، ما يقوم به الساسة الذين يخلقون هذه الأزمات ويخططون لها، ثم يجعلون منها سوقا للتكسب والتسلط والابتزاز، رأينا هذا في أزمة البوسنة، وأزمة دارفور، وغيرهما، والمصيبة أننا نخدع أنفسنا كثيرا حينما نصفق لؤلئك المجرمين الذين يتحدثون عن نكباتنا وهم صانعوها،ويقيمون المؤتمرات من أجل أزماتنا، ليزيدوها تعقيدا، ومع ذلك كله يجدون من قومنا من يثق فيهم ويظن بوعودهم وتباكيهم وابتساماتهم خيرا، يقول المسلم العظيم علي عزت بيجوفيتش وهو يملكنا عصارة تجربته مع المجتمع الدولي في مذكراته(لقد احتجت وقتا طويلا لكي أفهم أن الابتسامات والتحيات السياسية لا تعني شيئا حقيقيا على الإطلاق، فقد يبتسم إليك شخص ابتسامة عريضة تظنها مخلصة بينما هو يوقع عليك حكما بالإعدام) فمتى يدرك الذين يتشدقون بقرارات المجتمع الدولي أن هذا المجتمع لم يكن في يوم من الأيام نصيرا لنا في أي قضية من قضايانا.ولا تزال عبقريات التجار الكبار تتفتق وتتفنن في إحسان توظيف الأزمات، حتى أدخل سوقها الراقصون والراقصات، الذين تضاعفت أرباحهم وهم يرقصون فوق مآسينا،ويحتشد الناس لهم في حفلات ساهرة يدفعون أموالهم في بلاهة، ويبيعون دينهم في سخاء، ليرجع الراقصون والراقصات بعد ذلك إلى بيوتهم الفسيحة وفرشهم الوثيرة وثرواتهم النامية بفضل الغباء.