04 أكتوبر 2025

تسجيل

مقطع من أمنيات الجوع

27 مايو 2013

حين كتبت روايتي الأخيرة" أمنيات الجوع" في حوالي شهر واحد فقط، مدفوعا بإيحاءاتها الكثيرة، ومداخلها ومخارجها التي اتسعت أمامي فجأة، ونشرتها بعد ذلك، لم أكن أظن أبدا، أنني سأعلق في مشكلة بلا حل، وسيطاردني كابوس تداعياتها هكذا ولا أستطيع برغم جهودي التي بذلتها كلها، أن أفلت من مطاردته. كنت قد عدت من رحلة رائعة إلى كوالالمبور، تلك مدينة شرقية هزتني بشدة، وتمنيت أن أكتبها يوما وأكتب عنفوانها الشقي في نص يليق، التقيت هناك بمثقفين ورأسماليين، ومعلمين وفتيات ليل وصعاليك في الشوارع، وشدتني عدة شخصيات صادفتها، ولمحت في طلتها المميزة، إيحاءات شخصيات روائية، ستزين أي نص يحتملها.  كان ليونج تولي، أو الماستر تولي كما يسمونه، معالج الإبر الصينية المعروف بشدة في ذلك البلد، والذي راقبت تماسكه برغم العمر، وابتسامته المحبوكة جيدا وأناقته الشديدة، وتسليطه الضوء على مهنة قديمة، من تلك الشخصيات التي بهرتني بشدة، سكرتيرة عيادته أنانيا فاروق، التي لم أعرف لها جنسية محددة وسط ذلك الخليط من الأجناس في مدينة فائرة، هي أيضا شخصية سلسة، وتبدو بطولها اللافت للنظر، ومساحيق وجهها الكثيفة، وظلال عينيها الخضراء والحمراء، وفساتينها التي لا تخضع لأي موضة معروفة في أي مكان، وأحذيتها المفصلة حتى من الخيش والكرتون المضغوط، وجيش المرضى ومرافقيهم، الذي يغازلها إما علنا أو في صمت، نموذجا حيا لأميرة من الشرق الأقصى، تقوم بنزهة نزقة في بلد مرهق، من بلاد العرب، في نص من المفروض أن يكتب ذات يوم. التقيت بالبروفيسور الأمريكي سابقا: فيكتور جريلاند، والياباني حاليا: هوشي هيسوكا، أستاذ الموسيقى في أحد المعاهد اليابانية، وعازف الجيتار المدهش، ومطرب الأطفال في كل وقت، وأي مكان كما ذكر، والذي غادر بلاده في عام 1977، ولم يعد إليها أبداً بعد ذلك، تعارفنا في ممر ضيق بالسوق الصيني المحتشد بالسلع والناس والحيل، وتجادلنا طويلا في لقاءات عدة بعد ذلك، في مسألة الهوية، وكيف يصبح آسيويا صلدا، يحمل اسما يابانيا قديما يعني المحارب، من ولد في أمريكا، وعاش فيها حتى بلغ الأربعين. كان البروفيسور عجوزا، لكنه متماسك جدا، ونحيف حتى لكأنه طيف، وكان وجوده في ماليزيا، وجودا سنويا، حيث اعتاد زيارتها لأنه أحبها بجنون، ولأنه من زبائن عيادة تولي، للوخز بالإبر الصينية، لم يكن يشكو من أي شيء يستدعي ترصيع رأسه ويديه وساقيه بالإبر، كما أخبرني، ويأمل أن يبلغ المائة واقفا على قدميه، هي مجرد صيانة دورية يقوم بها لوظائفه الحيوية في كل عام، ويعود إلى بلاده المكتسبة، أكثر تفاعلا. وكانت فلسفته في محو هوية الغرب، واكتساب هوية الشرق ببساطة هكذا، هي أن الشرق، حين توده وتحترمه، وتؤدي له خدمات جليلة، سيبكيك حين تمضي، وستجد العجوز الذي جلست بجانبه في أحد المقاعد في حديقة عامة، أو قطار سريع، ذات يوم، يسير في جنازتك، وفتاة الجيران الصغيرة ذات الأحد عشر عاما، تضع الزهور على قبرك في كل يوم، على عكس بلاده، حيث يموت العباقرة والمكتشفون، ورواد الفضاء يوميا بحوادث الطرق، ورصاص القناصين الفجائي في الشوارع، ولا يفتقدهم أحد.