27 أكتوبر 2025

تسجيل

ليندا والكاتب- من رواية طقس

27 أبريل 2014

الرسالة التي شدتني أكثر، كانت من ليندا، ابنة عبد القوي الظل، أو ظل الظل كما كنت أسميها في سري. ليندا هذه فتاة غريبة، لم أرها في حياتي قط، بالرغم من وجودي في بيت والدها عشرات المرات، ولسنوات طويلة، وحتى قبل أن تولد، لم أرها في محاضرة، ولا فعالية ثقافية، ولا مسرحية من مسرحيات والدها، ولا في السوق أو أي زقاق معتم أو منير من أزقة الدنيا، وقد كان الظل يتحدث عنها بافتتان، في أحيان كثيرة، حين يأتي ذكرها، أو يقحم هو ذكرها عرضا في الحديث، وهو من أعطاها رقم هاتفي المحمول، لتعقد معي تلك الصداقة الهاتفية القوية. تحدثني عن أعمال قرأتها لكتاب مختلفين، وكونت رأيا فيها، عن أعمالي كلها، التي قرأتها باستمتاع كما تقول، وعن مشاريع لها، من ضمنها رواية سمتها: عجلتان وبقايا جسد، تعكف على كتابتها منذ عامين، وستنشرها ذات يوم. لم تخبرني عن مضمون تلك الرواية، ولا أنا سألتها أبدا، ودعوتها مرات عدة لمحاضرات ألقيها، أو احتفالات أشارك فيها، ولم تلب أي دعوة، أو تورد سببا مقنعا لعدم الظهور.كان صوتها في الهاتف مميزا جدا، صوت فتاة حالمة، أو تتحدث من بقايا حلم تعض عليه ولا تود إفلاته. ثمة جمل طرية ناعمة، كلمات نصفها بوضوح، ونصفها غامق بعض الشيء، ثمة لهاث خفيف، ونصف ضحكة يرن بين الحين والآخر.حقيقة لقد تلاعبت ليندا الظل بخيالي مرات عديدة، وسعيت لرسمها في الواقع، متبعا معطياتها، وخرجت بلوحة ذهنية فيها فتاة في العشرين أو تجاور العشرين، نحيفة، مستيقظة العينين، ناعمة الجلد، وذات شعر أسود غزير مزروع بالأشرطة الملونة، ورأسها يتمايل بتناغم عند المشي. تملكني فضول غريب للتحقق من لوحتي، وقلت للظل مرة ونحن نجلس في بيته مساء، وجعلت قولي كأنه يخرج ساذجا بلا تخطيط:- ليندا مثقفة كبيرة أستاذي، تقرأ كل ما أكتبه باستمرار، وتحكي لي رأيها بصراحة حتى في أعمال كتاب آخرين، لماذا لا تشارك في أنشطتنا الثقافية، أو على الأقل تأتي مرة، تجلس معنا، وتشاركنا الحديث؟رد مباشرة وأرى وجهه يتغير بتغير طفيف، كأنه استاء، أو أحس ببوادر مغص:-هذا جميل أيها الكاتب، ليندا بالفعل مثقفة واعية، ومشكلتها الكبرى أنها لا تستطيع مواجهة الآخرين. ثم غرس عينيه الضيقتين في وجهي، أضاف:- يكفي أنها تتحدث هاتفيا معك، أليس كذلك؟، أنت تعرف رأيها في أعمالك، وأعمال غيرك، ولا أظنك تنوي الزواج منها، أليس كذلك؟.فكرت أنني ربما أحدثت مشكلة ما بسؤالي عن ليندا، وأصبت بالحرج، وحولت اتجاه الحديث إلى وجهة أخرى، كنت أعرف أن الظل يستسيغها، ومؤكد ستمحو المشكلة أو الحرج، ذلك حين بدأت أتحدث عن مسرحيته: يوم في حديقة لانتيمارو، وكانت فنتازيا مسرحية رائعة عن يوم متخيل برفقة ديناصور، في حديقة اسمها لانتيمارو، خارج حدود الكرة الأرضية.قلت إن رسالة ليندا الهاتفية، شدتني كثيرا، وكانت طويلة ومكتوبة بجمل منتقاة، تتحدث عن أمنيات الجوع التي أنهت قراءتها للتو، حديثا مفرحا، وتسألني في النهاية، هل كان من الضروري أن تلهو بنيشان حمزة كل هذا اللهو المعذب؟. كان بإمكانك أن ترسل إليه رصاصة غادرة من مجهول تصيبه في عنقه، أو تدهسه بعربة مسرعة، وهو يعبر شارعا مرصوفا بالموت.