13 سبتمبر 2025

تسجيل

استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك

26 نوفمبر 2014

عبارة شائعة على ألسنة كثير من الناس، يطلقها على عنانها حين يستحضر فتوى يريدها، أو يستشعر شدة في فتوى لأحد أهل العلم فيبادر بقوله: استفت قلبك وإن أفتاك الناس، دون أن يذكر معيارا يستند إليه.وعلى الطرف الآخر نجد من ينكر الأمر بالكلية بدعوى أن الدين لا يحكم عليه براحة القلب من عدمه، وأن أحكامه كلها غير قابلة لمثل هذا النوع من الفتوى، فلا وجود لقلب يدرك المستحب من الحرام ولا وجود لقلب يتعرف على الحق من الباطل.والحق أن للإسلام ثوابت لا تتغير ولا تتبدل مهما تغايرت العصور أو تبدلت الأزمان لا دخل فيها لقب يستشعر أو يستفت في أصل من أصول الدين، وهناك غير الثوابت والتي نجد بعضا من جزئيات الحياة وتفريعاتها له مثل هذا الحظ من الفتيا، فقد جعل الإسلام للإنسان بعض استعراض الأدلة أن يكون فيها مفتيا لنفسه. فهو يستطيع أن يسأل "قلبه" أو "ضميره" آمرا أو ناهيا، مجزيا أو مانعا. بل إن فتوى الضمير النقي في هذه الحال قد تكون أصدق وأرجح من فتاوى بعض المفتيين المتخصصين، الذين قد يرخصون للبعض الذي يعرف عنه بما يعرف المسؤول عن نفسه شدة أو لينا، فقد يرخص المتخصص لغلبة الظن أنه لا يقدر وهو يعلم العكس، وقد يشدد عليه وهو لا يقدر عليه.وإذا أردنا الانتقال من التنظير إلى التطبيق فعلينا التأمل في حديث رواه الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بما يحل ويحرم (فصعد النبي – صلى الله عليه وسلم – وصوب في النظر، ثم قال: "البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون!"والمعنى ساعتها مرتبط بالقلوب النقية التي لم تتلوث بالمفسدات الفكرية ، والقلوب المستقيمة التي لم تتغير وفقا للأهواء والأمزجة، قلوب ونفوس جبلت على الحق لم تفسدها الشكوك والشبهات، ولم تمرضها المطامع والشهوات، ولهذا لم يجب النبي – صلى الله عليه وسلم – أبا ثعلبة بهذا القول إلا بعد أن صعد النظر فيه وصوبه. وقد كان – عليه الصلاة والسلام – من المتوسمين الذين ينظرون بنور الله. فعرف في هذا السائل سلامة الفطرة، فقال له ما قال. لكن أن يترك الأمر على عاربه ليقول من شاء ما شاء، ويستفتي المرء قلبا تزين بالشهوات وعقلا تشبع من الشبهات فهذا خلل في الفهم، وحكمه حينئذ غير مقبول ولا مستو ؛ لأنها تتبع الهوى، وتتأثر بالأعراف الفاسدة، والشهوات المضلة، والأفكار الباطلة.يقول العلامة المناوي في شرح هذا الحديث معللا تفسيره – صلى الله عليه وسلم – للبر بما ذكر من سكون النفس واطمئنان القلب إليه: "لأنه – سبحانه – فطر عباده على الميل إلى الحق، والسكون إليه، وركز في طبعهم حبه ". فالقلب السليم من مرض الشرك، ومرض النفاق، ومرض الشك، ومرض الشهوة، هو: المرجع في تمييز البر من الإثم، والحق من الباطل، والحلال من الحرام.وهذه الضوابط هي التي يستقيم معها التفسير النصي للحديث، والعلة كما قال المناوي رحمه الله: "أن على قلب المؤمن نور يتقد، فإذا ورد عليه الحق التقى هو ونور القلب، فامتزجا وائتلفا. فاطمأن القلب وهش. وإذا ورد عليه الباطل نفر نور القلب، ولم يمازجه فاضطرب القلب.قال: "وإنما ذكر طمأنينة النفس مع القلب ؛ إيذانا بأن الكلام في نفوس ماتت فيها الشهوات، وزالت عنها حجب الظلمات. فالنفس المرتكسة المحفوفة بحجب اللذات، تطمئن إلى الإثم والجهل، وتسكن إليه، ويستغرقها الشر والباطل، فاعلم بالجمع بينهما: أن الكلام في نفس رضيت وتمرنت حتى تحلت بأنوار اليقين. وفق هذه الضوابط نفسر كافة الأحاديث التي تسير نحوا من هذا السير، فحديث النواس بن السمعان عن النبي – صلى الله عليه وسلم قال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس".ومعنى "حاك في صدرك" أي اختلج في النفس، وتردد في القلب، ولم يمازجه نوره. ولم يطمئن إليه.وهذا ينصرف بطبيعة الحال إلى من ذكرناهم وعنيناهم بأصحاب القلوب النظيفة والنفوس المستقيمة.وأما المراد بالكراهية في قوله صلى الله عليه وسلم: "كرهت أن يطلع عليه الناس" الكراهة الدينية لا الكراهة العادية كما ذكر ذلك أهل العلم، كمن يكره أن يراه الناس آكلا لحياء أو نحوه. والمراد بالناس: وجوههم وأماثلهم الذين يستحيا منهم. وحمله على العموم بعيد.قالوا: وإنما كان التأثير في النفس علامة للإثم؛ لأنه لا يصدر إلا لشعورها بسوء عاقبته.