14 سبتمبر 2025

تسجيل

كرة القدم المستحيلة

26 نوفمبر 2013

لم يكن الشاعر السوري حسان عزّت مهتماً بقصيدة التفعيلة قبل الثورة، بل كان أحد المدافعين عن قصيدة النثر، في رهاناتها على التجديد، وخاض من أجل ذلك معارك نقدية عرفتها الصحافة السورية فترة الثمانينات من القرن الماضي. ولعل القرّاء والمهتمين يذكرون قصيدته النثرية (أنشودة الجندي)، التي طالما نشرت في عيد الجيش. قبل أن تحدث الثورة أثرهاً في الشارع والشاعر، فقد شهدنا حسان عزّت يقرأ علينا في الدوحة قصائد شعبيّةّ موقّعة، ومنذ أيام أهدانا الشاعر مشكوراً قصيدته الجديدة -يمكن للراغبين زيارة صفحة أصدقاء الشرق الثقافي على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك- (إنّا لمّا طغى الدّم) في إشارة قرآنية واضحة إلى الطوفان، مسقطاً ذلك على الواقع السوري الذي يصل إلى مرحلة الغرق الكارثي في تعقيدات كثيرة. يواجه الشاعر جمهوراً باحثاً عن متعة الشعر، ويريد الشاعر أن يعبّر عن حزنه، ثمة إرادتان متناقضتان تربكان سوق الشعر، والشاعر كاشَفَ (الغاوين) أنه سيخيب ظنهم، لأن الغناء ترفٌ في حضرة الدم النازف بعناد عمره ثلاث سنوات:" أنتمْ تريدون لي أنْ أغنّي لكمْ/ وأنا أُريدُ لأُفردَ حزني على الكون/ كانَ يمكنُ أن أجعلَ الكلماتِ غِنائي/ كانَ يمكنُ أن أغَنّي الكلام الذي في دِمائي/ وحُزني مثل السماواتِ والأرضِ/ بطولِ الزّمان ولاحدّ لهُ/ وخرابُ الخليّةِ منْ قبلُ..من بعدُ والنّار دمارُ بلادي/ وربْع الخرابْ/ كانَ يمكنُ لي..وألّا يكونَ البكاءْ/ لكنّني أنا وأنتمْ على القارعةْ". الشاعر "مندوب جرحٍ " والغاوون يقولون: "رنّموا لنا"، فيهرب الشاعر إلى الغواية الجديدة (كرة القدم) التي يخلص لها الغرب والعرب " ومن جاورهم من ذوي السلطان" تاركين بلاده للموت المجاني والأيادي القذرة: " بلادا يمزّقُها الحاقدونَ تنادي....ولا ولا أم لا أبّ..لا إخوةٌ في المنافي ينادونَ....أصوات صرعى استغاثوا ولا بابَ لهمْ غيرَ رب العباد..وياربيا شعبيا أمةً بائدة.. مجازر ُ لا حصْرَ..قتلى..يتامى..أيامى وغرثى يغطّونَ وجهَ البسيطةِ والكونْ.. كرةُ الأرضِ أحملُها..كرةُ القدمِ التي يجنّ بها العالمُ المتقدّمُ والمتخلّفُ والعربيُّ الخسيسْ...والأرعنُ العالميُّ التعيسْ". تبدو معالم شعرية جديدة استبطنت سماتها من مراحل شعرية كلاسيكية سابقة حيث اللوم والتقريع والتأنيب، الذي لمسناه في " أمتي هل لك بين الأمم" لعمر أبي ريشة، و" القدس عروس عروبتكم" لمظفر النوّاب، حيث يتطوّر اللوم عن طريق الإسقاط أو التصريح إلى شتم وسباب. ولكنّ حسان عزّت منكوب بشعب كامل على شفا القارعة، فيما كرة القدم ترقص في ملاعب خضراء ممرعة، تنسي العالم شعباً ينازل الموت في كل لحظة: "جول جول ولا وجهَ للشمس..لاحبّ غير الأسى في بلادي..كرةُ القدمِ المستحيلةُ..مملوءَةٌ بالدّماءْ/ أركُلُها أركُلُها إلى آخِرِ الأرضِ/ فتنفجرَ الأرضُ ملْءَ الهواءِ/ عماءْ يغطّي السماءْ/ أكسرُ مزمارَ شعري ولا أنحني". ولكنّ الغاوين ينتظرون، ويجب على حسان العائد من نشيده المقدّس أن يخاطبهم: " أنتمْ تريدونَ منّي غِنائي/ تفاحةً..كأسَ شايٍ لذيذْ/ وأنا حزنُ بلادي معي / لا لا لا لا/ أيُّ حزنٍ بلادي وشامي أقولُ لكمْ/ ودماءُ بلادي وشعبي مِدادي وفّنّي أقولْ/ وأنا لا..ولا.. لنْ أغَنّي/ قلمي وأوراقُ دمٍ/ يُغَطّي بلادي معي/ أنا وأنتمْ وبلادي التي وجَعي". ثمة مصالحة مع الغاوين للتفريق بينهم وبين الغرباء في نشيد الإنشاد، ثمة حضور تاريخي في المقارنة بين حزن وحزن، ثمة إشارة خفية إلى مقارنات سابقة بين العرب واليهود، في نشيد الإنشاد، وفي التعاضد بين المقدّس والبشري: " اذهب أنت وربك فقاتلا"، وثمة شعرية جديدة تنضاف إلى منجز حسان عزّت السابق. شعرية تنتقل من الشفاهية في تجربة النثر، الشعرية التي تراهن على البسيط، منطلقة إلى الغناء العالي المحمّل بدلالاته، وفجائيته.