10 سبتمبر 2025

تسجيل

التصحر السياسي وأزمات اللحظة الأخيرة

26 نوفمبر 2013

يبدو أن قدر الشعب المصري أن تبقى حركته فوق حبال مشدودة وعليه بكتلته الواسعة أن يدفع وحده الثمن، بينما في الواقع يتعرض وجوده وتاريخه وأمل المستقبل لديه لأخطار لم يكن هو صانعها، وكأن ظاهرة "الفرص الفرص الضائعة" هي قدر المصريين. رغم الاختلاف بين الفترة الانتقالية الأولى بعد 25 يناير 2011 والثانية بعد 30 يونيو 2013، غير أن وجه الشبه بينهما هو دفع الشعب المصري إلى حائط العجز، يفرض عليه اختيارات تجرده من مردود ما أطلق عليه العديد من المحللين السياسيين تغيرا جوهريا في معنى الثورة الشعبية السلمية. في أعقاب يناير 2011 تشكلت لجنة للتعديلات الدستورية اختارت أن تبدأ بالانتخابات النيابية، ثم تضع دستور ما بعد الثورة، وكان ذلك أول خطوة نحو إجهاض نتائج حركة الشعب، وفي الاستفتاء على التعديلات الدستورية مارس 2011 ترددت مقولة "نعم للدستور هي نعم للاستقرار"، لتنقلب إلى "نعم للدستور هي نعم للإسلام"، ولتسقط نتيجة الاستفتاء كل الأقنعة عن الجميع، وتعلو نغمة غزوة الصناديق، وتخرج كل طيور الظلام من جحورها داخل عباءة الدين والتكفير، وكان الحديث يومها عن أن توافقا أمريكيا إخوانيا ضد ثورة الشعب يقارب حد الجنون، ولكننا كنا نقوله. ويومها كانت بقايا الأحزاب السياسية والنخبة كافة تسير في عكس الاتجاه، وتسعى إلى تحالفات تعوض بها حالة الوهن في قدراتها وعلاقتها بالثورة وبالشعب، بل إن حالة من الشبق إلى كرسي الرئاسة أدارت الرؤوس لينتهي الأمر بالشعب أيضاً لأزمة اللحظة الأخيرة، ويفرض عليه في انتخابات الإعادة أن يختار بين ممثل لنظام مبارك أيا كانت محاولات التجميل، وبين ممثل للإخوان تحت عنوان الثورة وهو في الواقع خاطفها وسارقها. ودفع الشعب ثمن الخطر، وكادت الدولة أن تتحلل، وفرض على الشعب الخروج الثاني لمحاولة الحفاظ على الوطن. ليس من العقل في شيء إلا أن نراجع مواقف كافة الأحزاب والتيارات السياسية والنخب أيضا، وبات واضحا أن الشعب يسبق الجميع، وهو أعزل من التنظيم أو القيادة ولا يملك للمستقبل غير شعارات الأمل، بينما الخطر يهدد وجوده ذاته. وليس من العقل أيضاً التغافل عن وقائع ثلاثين شهرا سبقت يونيو 2013. وليس من العقل ولا الإنصاف التغافل عن متغير رئيسي بانحياز القوات المسلحة للمطلب الشعبي بإنهاء سيطرة الإخوان، انحياز اختياري وليس مجرد توافق الإرادة الشعبية مع رغبات رفض التوريث. ولكن كان هناك جديد يضاف إلى الصراع، فالأمر تجاوز مجرد ثورة شعب يسعى إلى التخلص من نظام فاسد أو استبداد قبل يناير أو بعده، ولكن جديدا أضيف إلى الصراع ينقل سلمية الثورة إلى حالة من الدم والتدمير والانقسام واختلاط الفرز واتضح أنه لاستعادة الوطن ثمن فادح يجب دفعه. مواجهة لعنف مسلح في سيناء مما يسمى بالتنظيمات الجهادية، وأعلن عن حضور القاعدة إلى سيناء، ثم حالة من الانتحار لجماعة الإخوان، بلغت الآن حد استدعاء تجربة طالبان إلى مصر، ولتدخل بمصر بذلك ضمن حالة الفوضى بالمنطقة كلها التي تكشف حقيقة إستراتيجية الخارج نحو إجهاض الحالة الشعبية في مصر، واستبدالها بحالة الصراع بين المجتمع وتيارات الإسلام السياسي، لتتوارى أهداف الخارج وراء أستار دينية محلية. تحمل الشعب الثمن الباهظ، وتحملت القوات المسلحة والشرطة مسؤولية مواجهة العنف، وانكشفت الأحزاب والنخب والإعلام وفئات كان مقدرا لها أن تكون قوة المواجهة الناعمة لتفضح أمر ما أصابها من وهن. أثبتت الفترة من يونيو حتى اليوم أن التعجل ومحاولة التوافق حول خارطة المستقبل عادا بنا ثانية إلى خيارات اللحظات الأخيرة التي يدفع النضال الوطني ثمنها. وبديلا عن الوعي بطبيعة المرحلة وما تحتاجه من وحدة كافة القوى الرافضة للاستبداد والساعية لتحقيق غايات الثورة، كانت السياسة تفرط في الحركة الشعبية، فإذا جاز لنا أن نتهم الإخوان بالاستبداد والتفريط في الوطن وإصابة الشعب بحالة الانقسام، فالنخب السياسية لم تستوعب الدرس، بل إذا جاز التعبير فإنها تضع دستورا ينقلب على مكاسب سياسية لقوى اجتماعية هي عصب الوجود الشعبي وحركته، بل صار الدستور يتحدث عما تريده النخب العاجزة عن الوجود بذاتها ولذاتها، وهو نفس المنطق الإخواني. ومع تصاعد أصوات تحذر من أداءات داخل لجنة الخمسين المكلفة بوضع الدستور، بدأ حديث عن "نعم" للدستور حتى نكشف الإخوان أمام العالم وأن الشعب يرفضهم. ذات المعادلة تتكرر، شعب يخرج بالملايين، وإرادته يجري اختزالها في قاعات مغلقة تحيا أوهام من بها. ولكن كما أن التاريخ لا يعيد نفسه، فأيضا الخطر يتجاوز مجرد خيارات اللحظة الأخيرة والتي يمكن تعديلها لاحقا. الخطر في مصر وعليها الآن داخلها، القاعدة وطالبان الإخوان، ومن خارجها في لعبة الصراع حول المنطقة، هي حرب تهدف إلى استرداد المبادأة بعيدا عن الإرادة الوطنية للشعب المصري والأمن القومي العربي. ووسط صوت طبول الحرب التي تصم الآذان، ورائحة الدم، تجب الإجابة عن سؤال دائم وملح في اللحظة، "ما العمل؟". لن نهرب إلى مقولة "الذين يريدون الحياة عليهم أن يقاتلوا من أجلها"، ولكن يجب أن ننظر إلى السبيكة الوطنية اللازمة في هذه اللحظة. أولا يجب الاعتراف بعجز القوى السياسية والأحزاب عن التعبير عن الشعب، وهو أمر يجب إدراكه عند وضع قانون الانتخابات النيابية. ثانيا يجب الاعتراف بعجز من تبقى من مجموعة الثلاثة عشر التي ترشحت في انتخابات الرئاسة عام 2012، وأنها إن كانت تتكلم فهي عاجزة عن الفعل، وليس هناك فرصة ليكون الشعب وحاجاته حضانة لعلاج المبتسرين سياسيا. ثالثا أن قانون ممارسة الحقوق السياسية يحتاج إلى أن يتسم بشجاعة الإرادة الشعبية، وأن يكون أداة فرز وتطهير بقدر ما يكون عادلا في ذلك دون أن تصيبه رعشة أو تردد. رابعا أن إدراك أبعاد الصراع الذي دخلته مصر، يستلزم إدراك المتغيرات العالمية وما يلم بها، وهي خلال فترة الأشهر الماضية أخذت في التحول عن ميادين قتال كانت قائمة أو متوقعة، وهي لا تفعل هذا لتركن إلى هدوء المدافع، ولكن من المؤكد أن ميادين جديدة يجري إعداد ساحة المعركة فيها، وعلينا أن نعلم أننا في القلب منها، وعلينا أن نعد أنفسنا لها، فإذا كانت مصر والسودان واضحة للعيان، فإن السعودية ذاتها دخلت ميدان المعركة القادم، والبدايات من الحدود العراقية السعودية، بينما الحدود الجنوبية للسعودية مهيأة لذلك من قبل. خامسا أن القلب الصلب لمصر الوطن متمثلا في القوات المسلحة، أثبت قدرة على إدارة المرحلة الماضية، بل وتجاوز حد أن 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا. سادسا إذا كانت الحيلولة دون القاعدة وطالبان الإخوان في مصر تحتاج مواجهة أمنية، فإن الاحتياج الاقتصادي والسياسي للمجتمع المصري هو البيئة الحاضنة والداعمة لهذه المواجهة. سابعا أن خطابا سياسيا واضحا يعرض للحقائق لم يعد اختيارا بل هو واجب، ومراجعة النفس مع الشياب أمر حتمي. ثامنا أن إعداد أرض المعركة من جانب مصر، يحتاج إلى رؤية إستراتيجية عربية، لمواجهة تتجاوز الإخوان ولا تعطيها أكثر من كونها إحدى أدوات المواجهة مع العرب ومصر. نحن في حاجة إلى تجاوز أزمات اللحظة الأخيرة، بكل الإرادة، وباصطفاف شعبي، وبيقظة اختيار لمنظومة الرئاسة القادمة بعيدا عما هو معروض علينا.