10 سبتمبر 2025

تسجيل

ذكرى ليالي السمر .. ومجلس عمنا خليفة

26 أغسطس 2015

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); (1) عيناه تتسعان، وفمه ينفرج رويدًا رويدًا حتى يجافي فكّاه أحدُهما الآخرَ، تفكُّ يداه قبضتيهما؛ فيسقط جهاز "الآيباد" من دون أن يشعر، مدهوشٌ بالزمن والحدث اللذين يسرقانه من ألعابه، مفتونٌ بالبطل الذي فُتنْتُ به قبله. لقد كانت تلك سطوةَ ذكرِ البطل "جاسم" على ابني "خليفة"، ولتلك السطوة معي شأنٌ آخرُ؛ فقد كنتُ، في كل مرّة أرى فيها "خليفة" منبهرًا هكذا، تحملني الذكرى إلى ليالي السّمر ومجلس عمّي؛ فيسودُ صوتُ والدي، وتسود معه صورةُ فمي المشرع وعينيّ المتسعتين، وسطوةُ الفتى "جاسم" التي لا تزال ترافقني. (2) منذ البارحة، وأنا أحاول العودة إلى زمني، حاولتُ ذلك من خلال حديث الذكريات الذي تداولناه أنا وجمعٌ من الأصدقاء والمقربين في مجلسي، لكنه لم يفلح في العودة بي، غير أنّ ملامح "خليفة" هي التي استدعت ذاكرتي بسهولة؛ فحملتني إلى ذلك المجلس الذي كان والدي يُصرّ على أن أحضرَه بصحبته كلَّ مساء، وقد كان هذا في عرف القطريين من أفضل وسائل التربية وأنجحها، حيث ينخرط الصغار مع الكبار؛ فيتعلمون آدابَ الحديث والطعام والشراب واستقبال الضيوف، وينصتون إلى بطولات أجدادهم وأمجادهم، ويكتسبون من ذلك كله ما ينشّئهم التّنشئة الطيبة الواثقة، وما يهيّئهم لتقلبات الدهر. حقًّا، وقد قالها والدي: "إن الجلوسَ مع الكبار هو المدرسةُ الأولى التي يتربّى فيها الرجال". (3) وقد كنت حريصًا على أن يكون مجلسي شبيهًا بمجلس عمّي، غير أن الحداثة تخطفنا أحيانا لنعبرَ على الماضي عبورًا سريعًا، ولكنّي بالأمس حين عبرتُ لم أعد، ولا أدري لماذا! لعلّي كنت مشتاقًا جدًّا إلى صوت والدي، أو لعلّي سألتقيه قريبًا!! هكذا حدثتني نفسي. صوتُ والدي الذي كان يتغنى ببطولات الأجداد ليلَ نهار لا تتوقفُ أصداؤه في أذنيّ، غير أن حكايةً من بين تلك الحكايات وحدها التي ظلت متفردةً يقصّها علينا في كل حين، وهي حكاية الشيخ جاسم بن محمد مؤسس دولة قطر. (4) كان والدي إذا بدأ حديثه استرسلَ، فلا يقطعه غير فمي المفتوحُ؛ فيقول لي مُنّبهًا: "سَكّرْ حَلْجَكْ يُبَهْ!" وبعدها يعود إلى سيرته الأولى متغنّيًا ببطولات ذلك الفتى الذي استولى بسيرته على القلوب، فانقادت له العقول راضية مطمئنة. (5) كنتُ أحبّ حضور تلك المجالسِ المسائيةِ، وإن بدا لي أحيانًا أن اللعبَ يستهويني، أو أن رغبتي في التقلّب في حِضْن أمّي تستدعيني أكثر، أو أنّي أشتاقُ إلى مشاكسةِ أخواتي البنات في المنزل، ولكنّ هذا لم يكن مسموحًا به في نظر أبي. وفي كثيرٍ من الأحيان، كنتُ أقفُ عند باب المنزل قبل أن نغادر إلى مجلس عمّي، وأتساءلُ: "أيّ قصائدِ الشيخ جاسم سوف تقرؤها الليلة؟" فيرد مبتسمًا وقد أدرك سببَ السؤال: "لا تقلقْ يا بُني، فمع الشيخ جاسِم؛ رجلِ المبادئ ورُبّانِ سفينة قطر، نحتارُ من أيّ موقفٍ نبدأ؛ فإن كنتَ تحب البطولات ففي كل ليلةٍ ستسمع بطولةً جديدة من بطولاته في صدّ المعتدين، وعن حكمتِه في جمع كلمة القطريين، واستنهاض عزائمهم فيهم، وفوق ذلك كلّه مساجلاته الشعرية التي توثّق تاريخَ قطر البطولِي مشحونةً بجملةٍ من القيم النبيلةِ والـمُثُل العالية، التي يعتمدها القطريون شعارًا لهم في حياتهم حتى يومنا هذا". (6) ورغم أن مجلس عمّي كان مجلسًا لسرد قصص الأبطال وفضائلهم، فإنني كنت أتوق إلى الحديث عن بطولة الشيخ جاسم تحديدًا، ولم أكنْ حينها أدركُ لماذا سيطَرت على نفسي بطولتُه دون غيره، ولماذا كنتُ أريدُ أن أكونَ هذا الرجل بالذات. لم أكنْ حينها أدرك كلّ هذا، ولكن حين نضجتُ قليلاً، وبدأتُ أفكر بعقل الناضجين عَرَفت أن انبهاري به لم يكن لبطولتِه المتفرّدة فحسب، بل لجملةٍ من الخصال توّجتها البطولة، وكان مما يُبهرني في خصاله الفذّة مبادرته، وهو في قطر، بإمداد المجاهد عمر المختار، في ليبيا، بالمال لدعمِ صمودِ الليبين وجهادهم ضد المستعمر الإيطاليّ من أجل الحرية والكرامة والدّين؛ فصار قدوةً واستقرّ في قلبي قبلَ أن يقودني خطوي إلى السير خلفها. كيف لا وسيرةُ هذا البطل يُقتدى بها؟ تلك السيرة التي تستمد دعائمَها من تشريع الإسلام الحنيف. (7) نقلتني ذاكرتي إلى ذلك الزمن الجميل، وقد ساد صوت والدي وهو يحكي عن تلك الليالي القاسية التي عاشها أهلُ قطر، وعن تلك النّكبات التي تتابعت على أرضهم، وغادرتهم من دون أن تترك بقيةً من انكسار أو هوان. (8) ساد صوت والدي وصورة خراب الدوحة الأول والثاني تلوح بين ثنايا صوته، حيث استُبيحت البيوتُ ونُهبت الأموالُ، وأُزهقت النفوسُ، حتى كاد أهلُها ييأَسون من عودة الحياة إليها، وكان ممّن بقي من أهلها الفتى المقدامُ جاسم، الذي عَرَف بذكائه وحُنْـكته كيف يوحدُ الصفوف ويجمع الكلمة. ساد صوته وهو يستدعي حكاية أسْر الشيخ جاسم، وكيف اختبر الله وَحدةَ القطريين في تحريره باستبسال. ساد صوته وهو يتحدث عن الأطماع التي أحاطت بهذه الأرض النقية من قِبَل البريطانيين الذين طمعوا في أن يضموها إلى غيرها من الإمارات تحت وصايتهم. كلّ ذلك تملّكني في لحظات لم تكن لي، بل كانت لذلك الزمن. لقد قدّر الله أن يكون ذلك المساء هو مساء الذكريات، نقلتني الذكرى إلى مجلس الفضيلة والشرف والنُّبل، لأقضيَ لحظات بوزن العمر في زمنٍ فيه ما فيه من نكبات، وفيه ما فيه من بطولات، وفيه ما فيه من عزيمةِ شعبٍ لا يزال إلى اليوم يستدرها ليستقوي بها على نكبات الزمن الحاضر. (9) لقد مكثتُ زمنا غير قصير في ذلك المجلس وعيناي معلّقتان على لوحةٍ في أحد جدرانه، وقد ظن الجُلُوس أن صمتي تأمُّلٌ لبحرها وبحَّارتها ونهّامها، ولم يكن ذلك، وبقيتُ على حالي تلك حتى أعادني صوت ولدي "خليفة" قائلاً: نريد أن نسمع حكاية هذا البيت يا أبي: وَخَرَجْتْ مِنْ بينَ السَّـلاطِين كِنَّنِي حــــــــــــرٍ تــــــــــــعَلَّا فُــوقْ رُوسْ اهْضــــــــــــــابْ