27 أكتوبر 2025
تسجيلالرسالة التي شدتني أكثر حين فتحت هاتفي، كانت من ليندا، ابنة المسرحي عبد القوي الظل، أو ظل الظل كما كنت أسميها في سري. ليندا هذه فتاة غريبة، لم أرها في حياتي قط، رغم وجودي في بيت والدها عشرات المرات، ولسنوات طويلة، وحتى قبل أن تولد، لم أرها في محاضرة، ولا فعالية ثقافية، ولا مسرحية من مسرحيات والدها، ولا في السوق أو أي زقاق معتم أو منير من أزقة الدنيا. وقد كان الظل يتحدث عنها بافتتان في أحيان كثيرة، حين يأتي ذكرها، أو يقحم ذكرها عرضا في الحديث، وهو من أعطاها رقم هاتفي المحمول، لتعقد معي تلك الصداقة الهاتفية القوية. تحدثني عن أعمال قرأتها لكتاب مختلفين، وكونت رأيا فيها، عن أعمالي كلها، التي قرأتها باستمتاع كما تقول، وعن مشاريع لها، من ضمنها رواية سمتها: عجلتان وجسد، تعكف على كتابتها منذ عامين، وستنشرها ذات يوم. لم تخبرني عن مضمون تلك الرواية، ولا أنا خمنت ذلك المضمون، أو سألتها أبدا، ودعوتها مرات عدة لمحاضرات ألقيها، أو احتفالات أشارك فيها، ولم تلب أي دعوة، أو تورد سببا مقنعا لعدم الظهور. كان صوتها في الهاتف مميزا جدا، صوت فتاة حالمة، أو تتحدث من بقايا حلم تعض عليه، ولا تود إفلاته: ثمة جمل طرية ناعمة، كلمات نصفها بوضوح، ونصفها غامق بعض الشيء، ونصف ضحكة ناعمة، ترن بين الحين والآخر. حقيقة لقد تلاعبت تلك الليندا في خيالي مرات عديدة، وسعيت لرسمها في الواقع، متبعا ملحقاتها، وخرجت بلوحة ذهنية فيها فتاة في العشرين، نحيفة، واسعة العينين، ناعمة الجلد، وذات شعر أسود غزير، ورأسها يتمايل بتناغم عند المشي. تملكني فضول غريب للتحقق من لوحتي، وقلت للظل مرة ونحن نجلس في بيته، وجعلت قولي كأنه يخرج ساذجا بلا تخطيط: ليندا مثقفة كبيرة أستاذي، تقرأ كل ما أكتبه باستمرار. وتحكي لي رأيها بصراحة حتى في أعمال كتاب آخرين، لماذا لا تشارك في أنشطتنا الثقافية، أو على الأقل تأتي مرة، تجلس معنا، وتشاركنا الحديث؟ رد مباشرة وأرى وجهه يتغير بتغير طفيف، كأنه استاء، أو أحس ببوادر مغص: هذا جميل أيها الكاتب، ليندا بالفعل مثقفة واعية، ومشكلتها الكبرى أنها لا تستطيع مواجهة الآخرين. ثم غرس عينيه الضيقتين في وجهي، أضاف: يكفي أنها تتحدث هاتفيا معك، أليس كذلك؟، أنت تعرف رأيها في أعمالك، ولا أظنك تنوي الزواج منها، أليس كذلك؟ فكرت أنني ربما أحدثت مشكلة ما بسؤالي عن ليندا، وأصبت بالحرج، وحولت اتجاه الحديث إلى وجهة أخرى، كنت أعرف أن الظل يستسيغها، ومؤكد ستمحو المشكلة أو الحرج، ذلك حين بدأت أتحدث عن مسرحيته: يوم في حديقة لانتيمارو، وكانت فنتازيا مسرحية رائعة عن يوم متخيل برفقة ديناصور، في حديقة اسمها لانتيسارو، خارج حدود الكرة الأرضية.