11 سبتمبر 2025

تسجيل

يا بني اركب معنا

26 مايو 2024

أبصر الوالد - بحكم ما منحه الله من عطاء - وجه الطبيعة الزائف، وخطر ما تقدمه لأهلها من مهالك، فأراد أن ينقذ أولاده من بحار الشهوات بسفينة النجاة، لكنهم أبوا ذلك! ليس ما مضى قصة مقتصرة على نبي الله نوح بقدر ما هي قصة صراع ممتد بين الأبوة الملهوفة والبنوة المخطوفة! الأول: لا يهدأ. والثاني: لا يفهم. إنها تبرز لنا طبيعة العاق حين تتحدث فيه الغفلة الموتورة والفتوة المغرورة! حين يغرق ويأبى أن يلتقط يد أبيه حتى ينتصر أو ينقذ نفسه! لقد تعاظم شر العقوق ونما حتى انتقل بعض الأبناء من دور المخالف إلى دور المعاند، فلا يكتفي بعدم الانصياع بل يزداد صلفا وغرورا ليقول: سآوي إلى عقلي! يمر على والده ساخرا من صنعته سرا أو جهرا تلميحا أو تصريحا، ولسان حال الأبوة المتألم: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون). لكنها الأبوة التي لا تهدأ ولا تتوقف عن محاولة الإنقاذ وإن كان الغرق حتميا! سيظل يدعوه ويعظه حتى وإن أيقن هلاكه. هذا نوح عليه السلام ينادي على ولده والطوفان يتحدث وسفينته تعبر بهم في موج كالجبال! {يا بني اركب معنا} قالها نوح بلغة رقراقة: يا بني، وهي وحدها كافية في حثه على الاستماع والانقياد، ثم أتبعها بقوله: معنا. وفيها الطمأنينة؛ لأنها معية مأمونة. لكن الإجابة كانت صادمة: {سآوي إلى جبل يعصمني من الماء}. لم ييأس الأب المكلوم من صنيع ولده، ولم تلن قناته، فأرسل له النداء الآخر: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} لا جبال، لا مخابئ، لا حامٍ فانتبه لكلامي وأنقذ نفسك يا ولدي قبل الطوفان! لكنه العناد والإباء! هكذا حال الوالد في وعظه، وذاك حال الولد في عناده، إلى أن تأتي اللحظة التي تتغير فيها صفحة المشهد كاملة. فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء ليكون المشهد الأخير: {وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}. نوح كان يعلم يقينا أن ولده لن يؤمن به، ولن يركب سفينته، لأنه سمع الله يقول: «لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» لكنه ظل يعظ وينصح حتى حال الموج! ولعلها رسالة مزدوجة إلى الآباء والأبناء معا، أما الآباء: فلا تيأسوا من روح الله. وأما الأبناء: فلا تغتروا بالفتوة وإن طغت؛ فالطوفان لا يعرف أعالي الجبال.