22 أكتوبر 2025

تسجيل

من مهر الصياح

26 مايو 2014

أورد هنا مقطعا من روايتي مهر الصياح، بمناسبة قرب صدور طبعتها الرابعة: وجاءت (تمائم) المغنية التي كانت فيما مضى صوتا طويل القامة، وواسع النبرات، يجر خلفه قوافل البله والشفاه الفاغرة، ويرجم كل صوت آخر يجرؤ على البزوغ في أنسابه، وكانت حفلاتها التي تقام في الساحات والبيوت الكبيرة وفي مناسبات جليلة كيوم تأسيس (أنسابة)، ويوم غزو (الكردماليين) الذي حدث في عهد السلطان (نفر المقدّم) أو ذكرى التتويج والجلوس على العرش، تشد حتى السلاطين والملوك، وقادة الحرب، ورؤساء القبائل..وحين باغتها العمر فجأة، وتغلغل إلى حبالها الصوتية ومفردات جسدها الطري، لم تعد تظهر أو تغني، كانت تعيش في ركود الحسرة في أحد الأحياء البعيدة متغذية من عصائد الهبات ودنانير قليلة كانت تصلها من عند معجبين مسنين لم ينسوها أبداً.. كان صياح المغنية مختلفاً.. رددته بصوت جاهدت أن تعيده عشرين عاماً إلى الوراء:(السلطان للعشيرة..قائد جيشها وكبيرا.السلطان في المسائل..الرويان ودّ القبائل.السلطان لو يبرّك..يديك بي إيدا تسرّك).استغرق الأمر اثنتي عشرة دقيقة مفخخة وسط ترقب المتجمعين وانتظارهم لذيل السلسلة في رده على ذلك الصياح الفخم. لم تكن المرة الأولى التي يمدح فيها (الرشيد) على هذا النحو، لكنها كانت المرة الأولى المغناة وذات الإيقاع الشجي وبذلك الصوت الإنسابي العريق. ثم جاء الرد أخيراً، فقد تم تعيين السيدة (تمائم شريف)بنت (شريف غاني) المنحدرة من قبيلة (الغانيين) والمقيمة في حي (ورى)الشعبي، عضواً في مجلس الجدات الذي كان واحداً من أهم المجالس في(أنسابة). كان يضم جدات من صفوة المجتمع وبيوته العريقة، ترأسه (السحابة) جدة السلطان شخصيا، وكان مكلفاً بإجراء مراسم تتويج السلطان ومراسم دفنه، ومراسم تحميسه بالطبول والحناجر في وقت الحرب، وكانت ثمة تدقيقات صارمة تجرى عن كفاءة الجدة وسلامة سيرتها من خدوش الشائعات وقدرتها على شل الفوران لدى البنات عند ظهوره، وكان تعيين المغنية بهذه الصورة المتعجلة، استثناء صارخاً، لم يحدث قط في (أنسابة) وكان راتب الجدة العضو في ذلك المجلس، مجزياً لدرجة أن تمائم المغنية لم تستطع التماسك..اتكأت على كتف ذيل السلسلة، واندلقت في بكاء رهيب.وإلى ذلك المجلس أيضاً جاء (حنفي الساحوري)، تاجر القوافل الكبير، كان صعيدياً من جنوب مصر، تعرف على طريق (أنسابة) منذ سنوات بعيدة، وأنشأ تجارته التي كانت دورة هائلة من دماء السلع، تتغذى من البلاد وتغذيها، كان يتاجر في الذهب والفضة والعقيق، والدخن،والموالح، وحتى في الجواري والعبيد، يأتي بقافلة كل عام تكفي مؤونتها لإشباع جوع التجارة إلى أن يعود، وتربطه بالسلطان علاقة الوجاهة والثراء لكن مشاغله الكثيرة كانت تمنعه من حضور مجالس (الكوراك) ضيفا.