13 أكتوبر 2025
تسجيلكانت مكتبة لندن العامة في ذلك الحين، واحدة من أكبر مكتبات الدنيا كما أعتقد، غنية بالكتب والخرائط، والمخطوطات، وتوشك أن تجلب لك الحضارات كلها من زمن فيثاغورث وأرسطو طاليس، إلى كولمبس وفاسكو ديجاما، وهذيان المغامرين الذي وثقوه في شكل مذكرات، ولابد توجد مخطوطات عن الشرق وإفريقيا، وأعرف أن رحلات كثيرة، صبت في تلك الأماكن، وما غزو تلك البلاد واستعمارها من قبل دولنا الكبرى، إلا نتاج معلومات استقيت من شرور المستكشفين، الذين لا تخلو رواياتهم عن ذكر الثروة والعبيد، ونساء المجهول، اللائي ينتظرن البيض المتحضرين قرونًا، ودائمًا ما كانت أسرتنا الكبيرة في اجتماعاتها الموسمية، مثل أعياد الكريسماس، وحفلات زواج الأقارب، تتحدث بلا كلل عن جد قديم. ذهب إلى إفريقيا صعلوكًا مشردًا، وعاد بعد أربعين عامًا، يحمل لقب سلطان، منحته له قبيلة كبرى هناك، وظل يحكمها، يتحكم في عقول رجالها، وأجساد نسائها، ورضاعة أطفالها، إلى أن شاخ وتذكر بلاده، وركب البحر عائدًا، لكنها عودة ذات رونق، حمل فيها أطنانًا من الذهب والعاج والمجوهرات. شخصيًا لم أكن أتذوق تلك القصة الركيكة، ولا كان ثمة دليل عليها، ولا أستطاع أحد أن يحدد قصرًا منيعًا، أو هكتارات أرض، أو أي ترف آخر، تبقى للعائلة من أثر سلطان ثري. أعتبرها حلم يقظة لعائلة تأثرت بروايات المستكشفين المضللة، وقصص الرحالة المبالغ في زخرفتها، وتود أن تحوله إلى حقيقة في أيام الثرثرة الكبيرة.لم أكن من زوار مكتبة لندن المنتظمين، ولا خطر لي في يوم من الأيام أن أشيد أمام أحد بتنظيمها، وجهود مشرفتها (مس آدمز)، أحد وجوه المجتمع البارزة، التي تتعدى موهبتها حدود رص الكتب وفهرستها، إلى أكثر من ذلك، وحكى كثيرون عن ثقافتها الواسعة، وصوتها الذي يتحدى موسيقى "القِرب" التي يعزفها الجنود الملكيون، وأصوات الطيور المغردة، وأنها كانت تقرأ الشعر وتمثله في أمسيات الاستماع التي تقام أسبوعيًا في المكتبة، ويمكن أن تصبح فجأة ملاكًا بجناحين مكسورين، خرج من قصيدة حب وهجر لشاعر من الرومانسيين القدامى، قرصانًا بلا قلب، في ملحمة عنيفة من ملاحم البرابرة، أو فينوس إغريقية، تمردت على ميثلوجيا الزمان القديم، وأشعلت القاعة بالحماس. كنت حياديا تجاه المكتبة ومشرفتها، وكان أكثر ما أعجبني في مس آدمز، في المرات القليلة التي رأيتها فيها، هي تلك الزهرة البنفسجية التي تضعها على طرف صدرها قريبًا من القلب ولا تغير لونها أبدًا. لم أبادلها أي حديث، ولا كانت تبدو متلهفة لتبادل الحديث مع زائر عادي، وكنت أشق طريقي إلى الكتب التي أريدها وحدي.لم تكن مس آدمز موجودة حين دخلت المكتبة في ذلك الصباح المتفرد وسط صباحاتي العادية، وأخبرتني فتاة سوداء الشعر وفي إحدى عينيها حول أكل شيئًا من ملاحتها، أن المشرفة في إجازة، فقد وضعت طفلها البكر منذ يومين، سمته توماس، وتستمتع بصراخه وقذارته ولن تعود قبل شهرين على الأرجح. ضحكت الفتاة، وكانت في ضحكتها رنة أسى. لقد علمنا مستر ويلارد أيضًا في عدد من محاضراته، أن الضحكات ليست كلها ضحكات فرح، ويمكن بسهولة أن نقرأ الأسى في أشد الضحكات جلجلة. تجاوزتها ومضيت إلى رفوف الكتب التي كانت مرتبة بفن حقيقة، وقد قسمت إلى أقسام عدة، يحمل كل منها تخصصًا.. كتب الرياضيات، كتب التاريخ، الفلسفة، الفن.. الأدب.. حضارات الشعوب.. أدب الرحلات.. كان هذا القسم الأخير، هو محطتي التي جئت من أجلها، ومن ثم بركت أمامه.