12 سبتمبر 2025
تسجيلالفراسة كما عرفها أهل اللغة: الظن الصائب، وهو ناشئ عن تثبيت النظر في الظاهر لإدراك الباطن، وقد قسمها الإمام ابن الأثير رحمه الله إلى قسمين: الأول: ما دل ظاهر هذا الحديث عليه: (اتقوا فراسة المؤمن) والمعنى أن للمؤمن فراسة من الله عز وجل يوقعها في قلبه، وقد ذكر أهل العلم أن فراسة المؤمن معتبرةٌ شرعاً في الجملة لقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]. والتوسم وهو تفعل من الوسم وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوبٍ غيرها، كما قال الشاعر يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: إني توسمت فيك الخير نافلةً ************* والله يعلم أني صادق البصرِ وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: [أحسن الناس فراسةً ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا، وابنة شعيبٍ حين قالت في موسى: يا أبت! استأجره، وأبو بكر الصديق حين ولى عمر ] وقد ذكر بعض أهل العلم أن الفراسة علم يكتسب، وحامل لواء هذا القول الإمام الشافعي رحمه الله، فقد دخل اليمن خصيصاً لطلب كتب الفراسة وشرائها، وحصل له موقفٌ عجيب أكد له هذا التوجه، يقول رحمه الله: مررتُ في طريق بفناء دار رجلٍ أزرق العينين، ناتئ الجبهة، سناط، فقلت: هل من منزل أبيت عندك؟ قال: نعم. قال الشافعي: وهذا النعتُ أخبث ما يكون في الفراسة، تفرست في أن هذا الرجل لئيم، لكنه رضي أن يؤويني فأنزلني وأكرمني، فقلت: أغسل كتب الفراسة إذا رأيت هذا — الآن أصبحت كتب الفراسة فاشلة — فلما أصبحتُ انتهت الضيافة قلت له: إذا قدمت مكة فاسأل عن الشافعي؟ — يعني: من باب المكافأة بالمثل إذا جئت إلى مكة اسأل عن الشافعي حتى إذا جاء يرد له كرم الضيافة — فقال: أمولىً لأبيكَ كنتُ — أنا عبد عند أبيك؟ — قلت: لا.قال: أين ما تكلفتُ لك البارحة؟ فوزنتُ له ما تكلف، وقلتُ: بقي شيءٌ آخر؟ قال: كراء الدار، ضيقتَ على نفسي قال الشافعي: فوزنتُ له. فقال الرجل للشافعي: امضِ أخزاك الله فما رأيت شراً منك! وهذا الموقف مع الشافعي أكد له أهمية هذا العلم. وقد ذكر الماوردي رحمه الله في كتاب أدب الدنيا والدين قال: وحكي أن تلميذاً سأل عالماً عن بعض العلوم فلم يفده، فقيل له: لِمَ منعته؟ فقال: لكل تربةٍ غرس، ولكل بناءٍ أس، وقال بعض البلغاء: لكل ثوبٍ لابس، ولكل علمٍ قابس. وينبغي أن يكون للعالم فراسةٌ يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته، حتى يعرف كم يعطيه من العلم وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه أو يضعف عنه ببلادته، فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم. وقد روي إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إذا أنا لم أعلم ما لم أرَ، فلا علمتُ ما رأيت" وممن اشتهر بالفراسة في التاريخ الإسلامي: إياس القاضي رحمه الله، ومما يذكر له أنه حين تولى القضاء في البصرة فرح به العلماء، حتى قال أيوب: لقد رموها بحجرها. (أي: أصابوا الرجل المناسب في المكان المناسب) وجاء الحسن وابن سيرين فسلمَّا عليه فبكى إياس وذكر الحديث: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وواحد في الجنة) فقال الحسن: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء:78] إلى قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً فدخل عليه رجلٌ استودع أمانةً من مالٍ عند آخر، ثم رجع فطلبه فجحده، فأتى صاحب الحق إياساً فأخبره فقال له إياس: انصرف واكتم أمرك ولا تعلمه أنك أتيتني ثم عد إليّ بعد يومين، ثم دعا إياس الرجل المؤتمن الذي جحد، فقال: قد حضر مالٌ كثيرٌ وأريدُ أن أسلمه إليك أفحصينٌ منزلك؟ قال: نعم. قال: فأعد له موضعاً وحمالين، وعاد الرجل إلى إياس، فقال: انطلق إلى صاحبك فاطلب المال، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقل له: إني سأخبر القاضي إياس. فأتى الرجل صاحبه، فقال: مالي وإلا أتيتُ القاضي وشكوت إليه وأخبرته بأمري فدفع إليه ماله؛ لأنه الآن لا يريد أن تتشوه سمعته عند القاضي، والقاضي وعده أن يضع عنده مالاً كثيراً وأن يجعله مقرباً منه، فدفع إليه ماله، فرجع الرجل إلى إياس فقال: أعطاني المال، وجاء الرجل الموعود إلى إياس في الموعد فزجره وانتهره وقال: لا تقربني يا خائن. وكذلك من القصص التي حدثت له: أن شخصاً تحاكم إليه هو ورجلٌ آخر يدعي مالاً قد جحده الآخر، فقال إياس للمودع: أين أودعته؟ قال: عند شجرة في بستان — سلمته المال عند شجرة في بستان — فقال: انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر، وفي رواية: هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورقٍ منها؟ قال: نعم. قال: فانطلقَ وجلسَ الآخر الجاحد عند إياس، فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه ثم استدعاه فجأةً وقال له: أوصل صاحبك بعد إلى المكان؟ فقال: لا بعد أصلحك الله، فقال: قم — يا عدو الله — فأدِّ إليه حقه، وإلا جعلتك نكالاً، فقام فدفع إليه وديعته.