09 أكتوبر 2025

تسجيل

بجعات برية والمعرفة

25 نوفمبر 2013

غرقت في الأيام الماضية في قراءة كتاب بجعات برية للمؤلفة الصينية: شونج شانج، الذي صدر مترجما في عدة طبعات عن دار الساقي: بيروت. وهو عبارة عن سيرة ملحمية لحياة ثلاث نساء صينيات هن: جدة الكاتبة وأمها وهي شخصيا، مكتوب بنفس روائي جذاب لا يخلو من الطرافة، وشد القارئ للغوص فيه برغم ضخامة حجمه.  على أن تلك السيرة لم تكن سيرة شخصية بحتة كما يمكن أن يتصور البعض ولكن زخما حكائيا يتحدث عن الصين حين كانت في قبضة الشيوعيين، عن الحكم الصينية والأمثال والمجتمع بخيره وشره، وكيف كانت المرأة تحيا في ذلك المجتمع الغريب، وكيف أن الكلام في شؤون الحب كان يستلزم إذنا من السلطة، بكتاب رسمي. مثل هذا النوع من الأعمال ضروري جدا لا لإشباع لهفة القراءة فقط، بل وأيضا لإشباع جوع المعرفة نحو حضارات نعرفها سطحيا ولا نعرف عنها الكثير في الواقع، وهم التحرر والعدل والمساواة الذي ساد عالمنا في فترة من الفترات حين كان اتباع المذاهب الاشتراكية موضة يتبعها الكثيرون وإلى أن انهار ذلك الوهم بسقوط الاتحاد السوفيتي، والآن الصين نفسها تخلت عن حدة الطبع وباتت دولة عصرية لها بصمات تجارية واقتصادية هامة، ولها سلع تتوغل في عمق المحيط التجاري لكل دول العالم. هذا ما أسميه: كتابة المعرفة، أن تكتب عن عالمك المجهول للآخرين بكل ما يحويه من حلو ومر، ولا تجمل صورته لأحد، أن تفتح باب بيتك المغلق للراغبين في الدخول، تبقيهم لديك ساعات أو أياما، وحين يخرجون يلمون بكل شيء. ودائما ما تأسرني مثل هذه الروايات أو السير المكتوبة بحبر الروايات لأنها تتماشى مع هذا المبدأ، الأمر الظاهر هنا، هو حكاية الجدة التي أصبحت بسبب طمع الأب، جارية غير مسموح لها بالحياة الطبيعية، لجنرال متعدد الجواري، ثم حكاية الإبنة التي عاشت في زمن ماو الصعب، والحفيدة التي تعيش الآن وتكتب، ولكن الأمر غير الظاهر هو حكاية بلاد بعيدة، وحضارة تغيرت عشرات المرات لتصبح حضارة ذات جدوى. وإذا كان هذا الكتاب قد ترجم لعشرات اللغات، وقرأه الملايين، كما ذكر عنه، فأنا لا أستغرب ذلك قطعا، فالكل يود أن يعرف شيئا عن تاريخ الصين لا من كتب التاريخ المتعددة والمتشعبة ولكن من خلال سيرة أو رواية، لأن الكتابة الإبداعية في رأيي، بما فيها من بهارات، ولغة أدبية متميزة، وبعض الخيال الضروري لشحن الكتابة، يمكنها أن تشد القارئ أكثر، وتغرسه في سكة القراءة. في عالمنا العربي، كثير من هذه الكتب التي تحمل في ظاهرها الحكاية، وفي باطنها المعرفة، وما كتبه العظيم نجيب محفوظ، كان أبوابا تم فتحها على الحارة المصرية، في زمن ما لتنقل لنا معرفة كبيرة، كذلك كتابات يحيى حقي وتوفيق الحكيم، وآخرين تحدثوا عن بلدانهم بكل صدق، ورسخوا مفاهيم كتابية راقية، ثم أتت الأجيال الجديدة من الكتاب، لتضيف المتغيرات التي حدثت في تلك الأوطان. إذن لنقرأ جميعا المعرفة الكامنة في كتب الحكايات والسيرة الشخصية لأصحابها مثل بجعات برية وغيرها من الكتابات العظيمة.