11 سبتمبر 2025

تسجيل

الملهاة الإلهية

25 أكتوبر 2018

في ملحمتك هذه يا دانتي (الكوميديا الإلهية)، والتي كتبتها في ثلاثة عشر عاماً، وتضم مائة أنشودة، قوامها أربعة عشر ألفاً ومائتان وثلاثة وثلاثون بيتاً شعرياً، وكأنك يا دانتي تبرهن للحياة معنى (الدورة الحقيقية لولادة النص الشعري). والحقيقة أنها تشبه إلى حدٍ كبير (رسالة الغفران) والتي كتبها أبو العلاء المعري، فرسالة الغفران تناولت موضوع الجنة والنار كذلك، والتي كانت في الأصل رداً ضمنياً على رسالة الأديب الشاعر ابن القارح. وكأنكم في هاتين الرسالتين وضعتم لنا الشكل العام لهندسة النص الشعري في ذهن الشاعر، فالجحيم هو النضوج النفسي للمشاعر، والمُطهر هو ولادة النص الشعري، وهذا الأمر قد تجلى في الكوميديا الإلهية (من جحيم وتطهير وجنة). إن الحوارات التي دارت في دار الخلود بين الشعراء من رسالة ابن القارح حتى الكوميديا الإلهية، مروراً برسالة الغفران، إن تلك الحوارات ما هي إلا الحوارات التي تدور أصلاً في نهج الشعراء وسلوكهم وبعض مواقفهم، وآرائهم في الحياة وفي قضية الموت وما بعد الموت. ففي كلٍ منّا دانتي وأبو العلاء المعري وابن القارح، فنجد النص يمر بهذا الجحيم ثم يتم تطهيره، ومن ثم يخرج للناس، فخروجه للناس وتناول الناس له، هو (الجنة) بالنسبة للنص الشعري، وليس كل نص شعري (جنّة). فالشعر يتطور ويتمدين ويتعالى ويتشكل حسب الحاضرة والمجتمع، لكنه لا يفقد خصوصيته، فللشعر أدوات متى أخل بها الشاعر سقط، كالوزن والقافية في القصيدة العامودية، وكالتفعيلة في الشعر الحُر والنثر، وكلها تخضع لمعيار المعنى الجمالي الخلّاق. وهذا الأمر يلزم الشاعر بأن يجتهد في ابتكار الأبعاد الجمالية في طرحه للنص الشعري، من خلال انتقاء الكلمات التي تناسب نصه الشعري، فنحن القراء كذائقة عامة، لا نريد أن نقرأ (صفاً من الكلمات)، ولا نريد أن نسمع سجعاً بلا روح، كسجع الكهّان في العصور القديمة، حتى إننا لا نريد نصاً مليئاً بالضياع، ليأتي لنا كاتب ذلك النص الشعري، كي يسجل حضوراً باهتاً ثم يلوّح به طول عمره في كل مكانٍ من الدنيا. إن كتابة النص الشعري الحقيقي، كمفهوم من المفاهيم الإنسانية العميقة، فهو يحتاج إلى تركيزٍ أكثر من قبل الشعراء، فنحن لسنا بحاجة لشعر لا يُفهم، ولسنا بحاجة لشعر لا يبقى. وقد يكون أحد أهم الأسباب التي تجلت في الآونة الأخيرة، ظهور ما يسمى بـ(مواقع التواصل الاجتماعي)، ليذوب النص الشعري الحقيقي، بسبب انتشار ظاهرة البيت والبيتين أو ظاهرة المقطع المقيّد بوقتٍ محدد، والتي غالباً (أي تلك النصوص) ترافقها الموسيقى الحزينة، والإيماءات التي لا تبشر بخير، من ابتسامات مختلقة، أو إيماءات حزينة، لتدعم ذلك النص الشعري المترهل، لتأتي (الكشخات)، وبعض مظاهر الرحلات الخارجية، إضافةً للفلاتر وخصوصاً (الأسود والأبيض)، وحينما تبحث عن النص في داخل ذلك المقطع، لا تجد نصاً شعرياً، بل تجد أبياتا مسخا للأسف. وأنا هنا أتكلم عن الشعر بشكلٍ عام، لا أخص فئة دون أخرى، أو مرحلة دون أخرى، ولكن من المحزن أن يصل الشعر لهذه الحالة المزرية، وكأنه يبحث عمن يرثيه في وقتنا الحاضر. إنَّ كتابة النص الشعري تشبه رحلة غوص في أعماق المحيط الهندي العريض، وليس كل شاعرٍ بحّارا حذقا، يستطيع إدارة نصّه الشعري مع هبوب الرياح، كي يخرج لنا من رحلته تلك بما غلا ثمنه وقل وزنه. وليس كل شاعر يشعر بما يتفوه به للملأ، فليست القصيدة مجرد وزنٍ وقافية وحضور مسرحي، بل هي أعمق من ذلك، فنحن نقرأ الشعر لنبحث عن المعنى الجميل لهذه الحياة، معنى مغاير لهذه الرتابة، معنى للحب في هذا الوجود. إن كتابة النص الشعري، هو الهدوء ذاته الذي يسبق العاصفة، ولكنه ليس بالعمل السهل، وذلك لأن الشعر رأس كل الفنون، وهذا الأمر لا يختلف عليه اثنان، بل إنه الفن الوحيد الذي يحتوي الكثير الكثير في سطورٍ قليلة، ليتوالد في النفس ويتكاثر في الذهن وكأنهُ قنبلة انشطارية، تملأ فضاء الروح بلا هوادة. يقول روبرت فروست: الشِعرُ هو ما ينتج عن عثور إحساس على فكرته، وعثور الفكرةِ على كلمات. ولكن بعد هذا كله، فهل نعتبر دانتي في كوميدياه الإلهية سارقا؟.