15 سبتمبر 2025

تسجيل

الشباب وضجيج بلا طحن

25 أكتوبر 2011

أن نروي عن الشباب أمر غير أن نحيا معه أداءه خارج الميادين وفي مهام تتطلب وعيا وإرادة وليس التظاهر والهتاف والاعتصام. بعد 16 عاما من الحراسة القضائية على نقابة المهندسين المصرية (450 ألف مهندس) وعدم إجراء انتخابات لتشكيل مجلسها واختيار النقيب العام لها طوال 20 عاما، أتاحت مسؤوليات تولي مهمة الإشراف عليها لي فرصة التعامل مع جيل جديد من المهندسين الشباب، يتزايد عددهم مع تنوع المهام، والإعلام عبر الشبكات الإلكترونية، لتتكشف القدرات المتنوعة التي يمتلكها هذا الجيل وتتجلى صورة الأمل في الرغبة في العمل والمعرفة، أمل يضيء وسط بورصة الانتخابات في مصر. تبدو حركة الانتخابات المصرية وتكتلاتها وانتقال الأحزاب من تكتل إلى آخر "ضجيج بلا طحن"، أو كما كانت تشيع في بداية السبعينيات مقولة "سياسة الاسكوتر... صوت عال وحركة معدومة"، للتعبير هن مثل هذه الوقائع والتي تتسم بالصوت العالي الذي يصم الأذان وبلا فاعلية، والاسكوتر هو نوع من الدراجات البخارية كانت في مصر ذلك الوقت، يصدر أصواتا عالية بينما حركته بطيئة لا تتناسب وما يصدر عنه من أصوات. من يتابع قوائم المرشحين الانتخابية وسرعة انتقال الأحزاب والجماعات من تكتل إلى آخر، يدرك أنها تكتلات خارج التاريخ ومسيرته بعد تفجر ثورة الخامس والعشرين من يناير، ويلمس بوضوح أنها تكتلات ليست ناتجة عن اتفاق سياسي أو التوافق بين هوامش برنامجية أو فكرية مشتركة، ولكنها مجرد شوق دفين إلى كراسي نيابية لم يعلن على الشعب مبررات شرعيته كي ينالها، وتكاد تنقض على ثورة الشعب لتحيل المجالس النيابية القادمة إلى تعبير من جديد عن واقع ما قبل ثورة يناير 2011. الاستقالات من الأحزاب تتوالى، وشخصيات نيابية كان لها دور معارض قبل يناير تتراجع عن المشاركة بما يوحي أن الانتخابات فجرت الأحزاب من الداخل، وهو ما يزيد القادم سوءا، وكأن العملة الرديئة بعد الثورة تطرد العملة الجيدة من مجمل الحياة السياسية، وتكاد مصر تبدو وطنا "تحت الحراسة الثضائية"، سلبت من شعبها، وأنيط بإدارتها غافل أو متطلع أو أناني. ومما زاد الأمر توترا أن زحف أعضاء الحزب الوطني المنحل يتزايد ويكاد يصل إلى نقطة التعادل مع غيره من الأحزاب الأخرى، خاصة أن الأحزاب الأخرى سعت إلى العديد من عناصره لتضعهم على قوائمها لتضمن أصوات العصبيات القبلية والعائلية دون أي تقدير لمعاني التغيير وإعادة بناء الوطن، وبديل الارتقاء إلى قدرة الشعب وإنجازه، يرتدون إلى عصور التخلف والجاهلية السياسية. تغافلت الحكومة عما يسمونه قانون الغدر والذي كان القصد منه عزل القيادات السابقة للحزب الوطني المنحل والتي أسهمت في إفساد الحياة السياسية والاجتماعية وكانت هذه العناصر أداة التشريع وإصدار قوانين اصطلح على أنها سيئة السمعة وهي منوط بها اختيار لجنة وضع دستور مصر بعد الثورة! وضعت العصي في عجلات الثورة للحيلولة دون الوصول إلى غاياتها، وتحول شباب الثورة وعناصرها إلى فرائس تطاردها قوانين استثنائية أصدرت بعد الثورة، وتقع ضحية هجمات متوالية أمنية وإعلامية، وجرى تجاهل حاجات الشعب التي جسدها شعار "الخبز ـ الحرية ـ العدالة الاجتماعية". الثورة لم تكن فعلا اختياريا أو اعتياديا، ولكنها كانت ضرورة لتغيير الواقع الذي يحياه الشعب، وتحولت من مجرد حركة في الميادين كسرت حاجز الخوف، تحولت بفعل المعاناة إلى عقيدة وسلوك لدي الشباب، بينما هي لدى النخب السياسية طموح إلى حد الجنون إلى سلطة ترث النظام السابق دون أن يكون الشعب داخل اعتبارها إلا بشعارات وأقوال لا ترقى إلى اليقين. يرصد أي مراقب منصف أن خللا ما أصاب العلاقة بين المجلس العسكري والأحزاب والنخب السياسية، وصارت بين هؤلاء مجتمعين وبين الشعب فجوة عميقة ليس هناك فرصة لتجاوزها في المدى المنظور، بل هي تضع اللبنات الأولى لصدام قادم، لن يكون بين الشعب وقوى الأمن بالشارع، ولكنه بين الشعب وتلك القوى وممثليها ولكن مسرحه سيكون مبنى المجلس النيابي وما يحيط به من طرق ومبان. امتد الخلل إلى آلة الإعلام التي تم مصادرتها بذات أساليب النظام السابق، ولم يكتفوا بهذا بل طاردوا أي محاولة وديعة ومهنية لممارسة حرفة الإعلام وفق أصولها المتعارف عليها في كونها أداة للكشف عن حقيقة ما يجري وأن مهمتها في هذه المرحلة هي تحليل الأحداث والإضاءة من حول المخاطر التي تهدد الوطن ومصادرها وما يترتب عليها من أضرار تطول شعب لم يبخل بحياة أبنائه في سبيل لقمة عيش كريمة وحرة وأن يقيم العدل الاجتماعي بين أبنائه وكافة الأطراف الاجتماعية المكونة للشعب. كسا اللون الأسود تصرفات الأشهر التسعة الماضية، ونازع سواد التصرفات لون الدم الأحمر لأبناء الشعب بأيدي من أطلق عليهم البلطجية، وهم أداة النظام السابق وخط دفاعه الأخير، وانضمت إليهم قوى هي ملك للشعب، فأهدرت دمه ولم تملك إلا تبريرات هي ذاتها تبريرات النظام السابق. رغم كل ذلك تحولت الثورة في الشباب إلى روح وإلى عقيدة وإلى سلوك، وارتقى الشباب درجات سلم الوعي، يدفع الثمن على أعتابه، ويزيد إصرارا وعنادا، وأدرك بالتجربة الدامية أن الصراع ليس مكانه ميادين مصر وشوارعها، ولكنه صراع على الشعب بفئاته كلها وعيا وإرادة. ولم يكن هذا مجرد قول ولكنه أخذ سمة الفعل وفي كل الاتجاهات، ولم يضع الشباب إرادته رهينة رغبة أو لقمة عيش، بل تخلص من أسر ذلك بوعيه أن تغيير الوطن هو سبيل البقاء الحر العزيز، وأن التغيير فعل ومنهج ومفاهيم، وليس مجرد أفواه وحناجر، وأن الدم غال وعزيز، وليس إهداره هواية تقليد أعمى ولكن الروح وليس مجرد الدم المسال هي ثمن يدفع، وقد دفع مقدما، وكسر حاجز الخوف وأطلق الإرادة من عقالها. شباب ينتقل بين الاعتصام نهارا إلى العمل من أجل بناء نقابته ليلا، وشباب يعود من عمله، دون راحة ليسهم في الإعداد لانتخابات هي طريقه لتحرير نقابته، لا يخجل أن يحمل المكانس وينظف مسرحا عشش فيه العنكبوت ويرفع عنه القاذورات، ويحاول إصلاح كراسيه ويبحث عن تطوير إمكاناته إعدادا ليوم الانتخابات، ويتطوع من كل ربوع مصر ليشرف على صناديق الانتخاب، ينتقل بين الكمبيوتر، وشراء سندوتشات الفول والطعمية بلا خجل ولا تردد، يعود سواء كان المريض أم أو ابن، إلى العمل التطوعي إعدادا ليوم الإرادة، ويصنع أعلامه الخاص ليبلغ الدعوة إلى كل أبناء المهنة. وتخرج إلى النور مجموعة أخري من شباب المهندسين حديثي التخرج، وتنشر المجموعة فيديو علي شبكة الإنترنت يدعو في هدوء وعمق واصرار كل المهندسين للاحتشاد يوم الانتخاب لتحقيق ارادتهم، عرف أن الإرادة يجب ترجمتها إلى فعل، وان الفعل الجماعي هو الفعل المنتج، وسعيت إلى لقائهم، وبادروا هم باتصال تليفوني، هم المبادرون، لم ينتظروا دعوة من أحد، وجاءوا لنلتقي. الزمان ليلا وساعة القاهرة التاسعة مساء، والمكان نقابة المهندسين، والحضور يجمع بينهم إنهم مهندسون وتتباين ألوان الشعر، فقد انتقل البعض منا إلى صفة شيوخ المهنة، ويمتد إلقاء إلى منتصف الليل مع شباب "مرصد"، يسألون ويستفسرون لتبين محددات الانتخابات، قواعد وقانون وإجراءات وأماكن، وكان الصباح قد شهد شبابا يتصلون من أماكن عديدة يطلبون دورا أو تحديد مكانا لديهم للجنة الانتخاب، الكل يسعى ليوم الانتخاب. لم تكن مبادرة الاتصال منهم هي المبادرة الأولى، بل يمكن أن تكون الثالثة فقد سبقها إنتاج فيديو الدعوة وتلي الفيديو ندوة عقدت في مركز الثقافة الشعبي "ساقية الصاوي" ونجحوا في هذه المبادرة أن يجمعوا الشباب من حول انتخابات نقابتهم. كان سؤالهم الجوهري خلال اللقاء عن ماهية المهام التي يستطيعون أن يساهموا بها وبالإعداد ليوم الانتخابات، بهدوء وسلاسة وبلا انفعال مما يؤكد أن الاهتمام موضوعي وليس مجرد انفعال بالحدث بل هو تفاعل، وانتماؤهم إلى الوطن ترجموه حيال المهنة التي ينتمون إليها بمهنتهم، الدعوة إلى مشاركة كل المهندسين في انتخابات نقابتهم. شباب تجاوز حالة النقد والاتهام إلى حالة البناء بينما النخب السياسية تعيش حالة "الضجيج بلا طحن" ويحكم سلوكهم هدف وراثة سلطة سقطت دون وعي بحقيقة التغيير الذي تحققت نتيجة ثورة يناير في سلوك الشعب وفي عقيدة ووعي الشباب من أبنائه. وعادت بي هذه الوقائع إلى مقال ودعوة كتبها ابني وهو في سنهم ليقول: "إن تكون الجمعة القادمة وما يأتي لاحقا من مظاهرات "مع" وليست"ضد" مع الحرية مع العدالة مع النظافة مع المستقبل مع النور وليست ضد الطوارئ وضد الكبت وضد الوساخة وضد الماضي وضد الظلام. لأن " مع " تجعل الحشد إيجابيا بناء أمام الرأي العام بعكس " ضد" تجعل الحشد سلبيا هداما أمام الرأي العام رغم أن كلمة "مع" هي بالضرورة ضد شيء آخر، تجاوز الشباب ما كنا نخشاه أنهم لم يتول أحد أعدادهم ولم يضع أحد مثالا قيميا يحتذون به، فصنعوا لأنفسهم قيمهم الرائعة في مواجهة غياب القدوة. ورغم ضجيج بورصة صناديق الانتخابات، ستبقى مصر ولادة، وسيظل هذا الشباب مثالا لأجيال قادمة.