28 أكتوبر 2025
تسجيلالعدل ميزان الله في الأرض، به تنضبط الحياة وتسير سيرا يضمن للضعيف حقه، ويوقف الظالم عند حده، لينشئ به الإسلام أمة، وينظم به مجتمعا، ويربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا، ويحدد به روابط مجتمع ناهض برباط قوي واحد: يجمع متفرقة، ويؤلف أجزاءه، ويشدها كلها إلى مصدر واحد هو الدين. وحتى تبقى فاعلية العدل ممتدة أمر الله أن تسقط كل الاعتبارات الجهوية أو القبلية أو العرقية، فلا شفاعة لمحب ظالم، ولا جور على عدو مظلوم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، أي ولا يكسبنكم ويحملنكم بغض قوم وعداوتهم لكم، أو بغضكم وعداوتكم لهم على عدم العدل في أمرهم بالشهادة لهم بحقهم، إذا كانوا أصحاب الحق، فالعدل فوق الأهواء وحظوظ النفس، وفوق المحبة والعداوة، مهما كان سببهما أو نتيجتها، حتى لو كان مآل الحكم إلى غير المسلم، حتى لا يتوهمن متوهم أنه يجوز ترك العدل في الشهادة للكافر، أو الحكم له بحقه على المؤمن. والناظر في القرآن يبصر جليا أصالة هذا المعنى تنظيرا وتطبيقا، فهذه آية في كتاب الله تبرئ يهوديا من افتراء مسلم عليه، وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {إنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}. وسبب نزولها: أن طعمة بن أبيْرق سرق درعًا في جرابٍ فيه دقيقٌ لقتادة بن النعمان، وخبأها عند يهودي، فحلف طعمة: ما لي بها علم. فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار اليهودي. فقال اليهودي: دفعها إلى طعمة. فلما همَّ الرسول بالحكم عليه إذ لا بينة له؛ نزلت الآية مبرأة ساحة اليهودي مما تم تلفيقه، وفضحت الخيانة والتزوير دون مراعاة لكون الجاني مسلما، أو المجني يهوديا! ثم أمرت النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر ممّا كاد أن يقع فيه من معاقبة اليهودي {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} مع أنه صلى الله عليه وسلم حكم بما ظهر أمامه من معطيات تقود إلى ذلك. إن العدل الذي أراده الإسلام، لا يتستر على منحرف أو مخطئ، أو يتساهل في الحكم عليه لكونه منتمياً إليه، ولا يظلم بريئاً أو يجور عليه لاختلافه معه، إنما أقام الإسلام العدل بقانون موحد، غايته إقامة المجتمع الصالح في الأرض. وقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا المبدأ، فلم يرد عنهم أنهم ظلموا مخالفا، أو اعتدوا عليه قصدا، بل حافظوا على حقوق الناس جميعا من الاعتداء عليها. ومن تلك الصور ما حدث مع عبد الله بن رواحة حين بعثه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ليخرص لهم الثّمار، فأرادوا أن يرشوه، فقال عبد اللّه: «يا معشر اليهود، أنتم أبغض الخلق إليَّ، قتلتم أنبياء اللّه - عزّ وجلّ-، وكذبتم على اللّه، وليس يحملني بغضي إيّاكم على أن أحيف عليكم. فقال اليهود: بهذا قامت السّموات والأرض». إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط، إلا حين تتعامل في قضايا العدل مباشرة مع الله، وتستشعر رقابة الله على خفايا الضمير ومكنونات الصدور، ساعتها تقوم لله متجردة عن كل ما عداه.