15 سبتمبر 2025
تسجيلوقال لنا جدي: استعدوا لنرحل، فلم يعد لنا مقام في هذه الديار،كنا خائفين نتلمس رؤوسنا بعد كلّ زوبعة، و إن سكنت العاصفة نمنا بعين واحدة. لم تبق شجرة ولا نبتة إلا اقتُلِعت، نفقت الماشية، ومات منّا من مات.تداعت جدران الطين، وسقطت السقوف، وفعل الحريق فعله بباقي البيوت، لم يبق حجر على حجر. فعدنا إلى جدّي ليحتضن من تبقى من العائلة، فثمة ذئاب تعوي في البرية، وريح تغنّي في الليل. كانت المضارب شحيحة الظلّ ، متقشفة الحبال، وكانت البيوت الداثرة مثار خوف ، فمنذ تهدمت سكنتها العقارب. قال الجدّ: لا آباء لكم ، أنا أبوكم ، اسمعوا واطيعوا، هذه البلاد ستلبس السواد سنين عددا، وسيهلك خلق كثير، تعالوا ننجُ بأنفسنا، ثمة طوفان بعد العاصفة. وثمة أمل. صلينا خلف جدّي ، أمّنّا وهو يقنت بنا راجياً النجاة لأحفاده من العاصفة و الطوفان. وقال: الذنب ذنبي ، تركت أولادي يجربون حظهم في الدنيا، فعاد مَن عاد مريضاً بالسفر، و بقي من بقي متعلّلاً بالريح، الريح تأتي وتذهب، و الليالي تُسلّي ولكنها لا تُنسي . وقال لا تنتظروا أحداً، ابنوا بيوتكم الجديدة بحجارة جديدة، واتركوا للعاصفة درباً كي تمرّ، و هزّوا عصيّكم للربيع، ففي كلّ عصا شجرة خضراء. وقال: اقرأوا الحياة بحب، فإن لم تجدوا فبحكمة، فإن لم تجدوا فاتركوا أوراقها إلى حين، فإن كانت خضراء فصرّوها لأولادكم، فربّ حكمةٍ تنتظر، و إن كانت ذابلة فاتركوها إلى حين فربّما عادت رطبة. وقال :لا تقيموا طويلاً في الخيام، فلا حياة في مدر، ولا ندامة في حجر، كل البيوت تتهدم، وتنهض، حين تسكن العاصفة سنعثر على الدار، الدار لا ترحل. كان جدي يطوي رغيفاً في يده، وأحفاده يبحثون في هيكل سفينة عن مركب يصلح للمشي على أرض تسيل فيها النار، كان جدي يبتسم ، وكنا نصنع المركب العجيب، و نسأله عمّن يركب أوّلاً، الأبناء المرضى، الأحفاد الأشقياء، الأحفاد الصالحون، مدرّس اللغة الإنكليزية، بنت عمي التي لم تر أباها، قفص الدجاج، جدّتي ، الأطفال الرضّع ، البقرة ، المسدسات الجديدة، السيف القديم، خابية الماء، عمّتي العرجاء، عمّي الذي كان شاعراً ثم صار معلّم أولاد الوالي، ابن عمّي المقيم في القرية الآمنة، الولد الذي ركّب قطع المركب القديم ، عدّة الشاي و القهوة، السجّادة العجميّة، بذور الحبّ والشجر. كنا نتناقش، وجدي يطوي الرغيف، ويبتسم، لم تكن جبهته غير غيمة سمراء، وكان يبتسم، والرغيف في يده ، ونحن جائعون وخائفون، نتقدم منه ، ونسأله ، ونمدّ أيدينا، وجدّي هناك ..هناك غيمة سمراء هربت من حضن جدّي وأمطرت ..أمطرت كما لم تمطر، ذاب وجه جدي ..و أيدينا الممتدة عادت مبتلّة بالدم.