15 سبتمبر 2025

تسجيل

صانع الطبول

25 مايو 2015

تلك الجمعة، وفي الساعة التي تقرض فيها الأجساد بأسنان التعب أو تسعل الرياح الهضمية هنا وهناك أو تختلي أوجاع الظهر بسلسلة فقارية، مات صانع الطبول نظر حبايب، وجدوه عند نقطة تجمّع القوافل المسافرة أمام بيت مال أنسابة، نفس النقطة التي شهدت تلبيته وركوبه وانزلاقه عن ظهور الإبل من قبل. كان يحتضر بمشقة، يشهق ويزفر، وأحياناً يغني أو يضحك أو يقهقه. حملوه إلى الجزء الأكثر رحابةً والأوسع صدراً لاستقبال الفضوليين وعابري السبل في بيته الفقير. جاءه رعاة الطب الحقيقيون ورعاة الشعوذة المنتشرون بغزارة في أنسابة، حُضّرت الأكاسير المختلفة واتّقد البخور وتعالت دعاءات وبسملات والتمّت النائحات من حيث لا يعلم أحد، وجاء الحكيم دوباجي إلى حي الرديم لأول مرة منذ أن أصبح الحي رديماً وأصبح كبير ممارسي الطب دوباجي. كان محاطا بالعبيد، وكان في مهمة سلطانية عنيفة، فيها وعود وأمنيات بلا حصر، وربما يلغي بعدها حظر السفر للمفتوقين والعمي والطرشان وحاملي ركاكة اللسان إلى الأبد. فتح صانع الطبول عينيه بمشقة ليرى إحرامه نظيفاً ومرتّباً وحزام الوسط محشواً بمال الحج، ونموذجاً منحوتاً من خشب الزان يمثل الكعبة مشرقةً وذات بعدٍ روحاني أحضروه من أحد تجار منحوتات الخشب على عجل. سأل عن جرعة ماء وعن الطريق إلى مقام إبراهيم، أغلق عينيه ببطء لا ليطوف أو يسعى أو يرمي الجمار أو يقبّل الحجر، ولكن ليموت بسلام.ولأول مرة أيضاً جاء إلى الحي المهاجر اليمني عباد عبد الرب، لم تكن مهمته عنيفة كمهمة الحكيم بقدر ما كانت استرداداً متأخراً لواحدٍ من الألقاب المتعددة التي فقدها بعد أن انقلب رغد الرشيد على حظه، لقب الشيخ عبد الرب، حيث تعالت الأصوات عند رؤيته:– الشيخ عباد عبد الرب يتلو ما تيسّر من الذكر الحكيم.وللمرة الثانية، وفي أقل من عامين، أقسم الكثيرون أنهم شاهدوا السلطان رغد الرشيد، بشحمه ولحمه وعمامته المذهبة، ممتطياً حصانه «المهراجا» الذي أُهدي إليه من بلاد الهند، يتجول في مناخات حي الرديم الحزين والغاضب.وربما للمرة الخمسين أو المائة شوهد حلحلوك المجنون، لم يكن زائراً ولا معزّياً ولا حتى عابراً عاديّا للطريق، كان مجرد مجنون يشاهَد للمرة الخمسين أو المائة في حي الرديم البعيد.وكجزء روتيني من مهامه الأمنية وحفظ النظام في تلك الوفاة غير العادية، كان لابدّ أن يشاهَد الأمير مساعد ونفر من كتيبته مبثوثين في بؤس تلك الليلة.دفنوه في مقابر «أولاد غرب» المخصصة لدفن المعوزين وذوي الحاجات وفتات القبائل، وسار في موكبه قرابة الألفي شخص يتقدمهم الحكيم دوباجي، الذي امتدت مهمته العنيفة إلى الفجر، والمهاجر عبد الرب الذي كان سخياً في تلاوته لآيات الاستشهاد كلها وسخياً في مواساته لتلميذه آدم نظر.