14 سبتمبر 2025
تسجيليقترب النأي كثيرا فيصبح ضربا من القرب الناء، وينأى القرب إلى درجة يكون فيها نأيا قريبا جدا. لا يروم القرب نأيا هنا، ولا يبحث النأي عن قرب له هنالك، بل ينزعان إلى الآخر نزوعا عفويا كنزوع الأثر إلى الخطوة، والظل إلى الشمس، إنهما يهربان من بعضهما البعض فيمتزجان في الآخر، ونراهما في تضاد حاد لا مجال معه للتوافق، ولو رأينا أخرى لوجدناهما ائتلافا متسقا لا سبيل فيه إلى التنافر. وبين نأيين يمتشق القرب قوامه السافر، وبين قربين يبرق النأي المسافر. وبين هذين المسارين المتجاذبين، اللذين بهما يشتد عود المسافة، ويحتد نظر المعنى، يكتسي الكلام عن الشاعر الدكتور حسن النعمة شكلا من الصمت الفصيح، ويغامر الصمت في حلبات الغناء الصادح. تتسع الرؤية في تجربة النعمة - الشاعر والدبلوماسي الأديب - أو تضيق، فإننا نجد إزاءنا من العبارة سكونا مطبقا، كأن الأمر لا يعنيها، وحيث يبلغ الإفراط في التذوق شأوا طويلا وشمما عاليا، فإن قامة الحديث تظل متضائلة، كأن الحال يستدعي مطاولة نقدية ممتدة الزمان وفسيحة النطاق، أو غرقا في مناخ العقود الثمانية الأخيرة من عمر قطر، واستدعاء لأمزجة الدهر العربي الحديث وهي بين انقباض وانبساط، واستحضار لذاكرات منثورة في المدى، محفوفة بالجوع والفيض والندى، كما واستجماعا لقطع من الوجوه والقلوب والصور والأصوات، فرقتها يد الخليج في مخابئ مصر والهند وأمريكا وتركيا. هكذا يبدو الخيط العريض الناظم لحياة النعمة، خريطة من الترحال في مرايا الذاكرة، وعالما تفتح نوافذه على نوافذ أخرى، وطريقا يفضي إلى طريق آخر، إلى أن يتبدى الشجن دليلا للإحاطة، وكشفا للسر، وهداية للغواية، أعني الشجن الذي يحل عقدة الانطباع، تجاه هذه التجربة التي اختمرت طويلا في ثنايا الزمان، وارتبعت بين روض وقفر، واعتلت آفاقا، وانتبذت وديانا، فحل وصالها متقطعا، وجاء حضوره رهين التلقائية التي يحركها وجدان الشعر، وكما لو أنها تكشفت بتقادم الهموم والقضايا السياسية في محيطنا العربي، وباحتدام الهواجس والمواقف في محيط النعمة، ثم بزغت في لحظة الإغفال، وتجلت في معرض التناسي. وما الشعر إلا نهلةٌ واندفاقةٌ وفَرْطُ رجاءٍ نبْعُهُ لم يزل ثرّا نصوغُ به الذكرى طُيوفًا جميلةً وفَيْئًا وَريفَ الظلّ يبترد الصدرا بقدر الانسياب الذي تتركه قصائد شاعرنا في نفس قارئها، بحجم الحيرة التي تلفّها -القصائد- حول قلم هذا القارئ، على الأقل في حالتي هذه، التي كثيرًا ما تساءلتُ حيالها: كيف ينبغي الكتابة عن حسن النعمة؟ على نحو يفصح عن مكانته وموقعه سيّما في التاريخين الثقافي والدبلوماسي القطري، ولا يخل باتساع مسيرته، ولا يقصر في حقها. قد تكون ثمة نبرة احتفائية، والحق يقال ما المانع من الاحتفاء؟ إذا كان النعمة قد ترك هذه المسافة، لا لمن يقوم بها من الأغيار، بل زهدا في تصديرها من جهة، وانهماكا في شؤون أحواله من جهة أخرى. كأنما أراد أن يعيش في الحياة، متبتلا في عوالمها السرية، متمسكا بعُراها الخاصة، ملتزما بحماها المغلّقة، لا أن يعيش من أجلها، ويباهي بها القاصي والداني. والحقيقة أن ما يسترعي التفكير في حياة النعمة وشعره ومواقفه، ليس القيمة الإبداعية والتاريخية التي يحملها وحسب، إنما ذاكرة البلاد التي ضمها في ساعديه بين حله وترحاله، وعيون الأخبار التي عبرت عن مقالة حاله، ولو قررت أن أمضي نحو استنطاق صمته، واستكناه قلبه، لركبت في ذلك الصعاب، وحملت نفسي ما لا يجوز احتماله، فدعوني أحدث عن فقرات حياته كما حدث عنها بنفسه، وذكره الآخرون عنه، أعني الكتاب الذي صدر حديثا عن دار نشر كتارا للناقدة المتميزة د. مريم عبدالرحمن النعيمي، وتكون من جزأين احتوى الأول على خمس وأربعين قصيدة من قصائده، موشّى بثلاثة فصول تناولت جوانب من سيرته العريضة، بينما خُصص الجزء الثاني لدراسة فنية للمضامين الشعرية والأنساق الموسيقية عند حسن النعمة. ولأنه ما أستعرضه هنا وجيز جدا، وليس بالطبع عرضا لهذين الكتابين اللذين بذلت فيهما الأستاذة مريم النعيمي جهدا جليلا، فإنه إذن لا يستوفي سياقا فسيحا - من حياة النعمة - كالوادي الأبطح، غمرته الأحداث على مدى الأعوام الطوال، وتعرضت له رياح المواسم المتقلبة، ومرت عليه نسائم السنين، ونبتت على ضفافه زهور العشب، ولم ينضب معينه. ولد شاعرنا حسن النعمة في عام ١٩٤٢م، يقول: "ولدت في سوق واقف، لأن الأم في العادات القطرية تضع مولودها في بيت الأب، وبيت جدي لأمي - رحمه الله - في أحد أهم مواقع سوق واقف، وأنا نشأت في هذا البيت، وأتمنى أن أموت في سوق واقف، وأتردد بشكل يومي على سوق واقف، ولا أعرف سواه في قطر". التحق سنين طفولته بالكُتّاب ثم سرعان ما انتظم في المدارس النظامية، وفي عام ١٩٥٨م انخرط موظفا متدربا في وزارة التربية والتعليم، ومن الطريف أنه حضر في ذلك العام مؤتمر الأدباء العراقيين المنعقد في بغداد وهو ابن ست عشرة سنة، وشارك بعد ذلك بعام في مؤتمر أدبي عقد في الكويت، مما يشير إلى كونه ربما بدأ ينظم الشعر آنذاك، وهي سن صغيرة جدا بمعاييرنا الحديثة، وكيف لفتى أن يتقصد المحافل الأدبية في ذلك العمر والزمان، إلا بنضج تام، ونظر بعيد، وروح واعية؟. يذكر النعمة أنه شهد حفل افتتاح دار الكتب القطرية عام ١٩٦١م حيث ألقى قصيدة في ذلك المحفل، وليس يُعرف الكثير عن الأعوام الخمسة التي توالت بعدها، إلا ارتباطه بالعمل الحكومي، غير أنه كان - بلا شك - أكثر ارتباطا بالقضايا العربية وهواجسها وهمومها، التي كانت تحتدم احتدامها المشهود في تلك الفترة الحرجة. وبين شاغل قومي، وسعي معيشي، وتحصيل علمي، تخرج الشاب المتدفق شعرا حسن النعمة من مدرسة الدوحة - كانت في مقام الجامعة - عام ١٩٦٦م، وبعد ذلك بعامين انتقل للدراسة في جامعة كامبردج: "وانصرمت فيها خمس سنوات من العمر لدراسة الدكتوراه، فدرست الدراسات الشرقية في الفكر المقارن. الفكر الإنساني المقارن". ومما يُذكر أن المستشرقة الألمانية المعروفة آنا ماري شيمل قامت بمناقشة رسالته في الدكتوراه مع مجموعة من الأكاديميين، وليس بمستبعد أنه ارتبط بشخصيات علمية أدبية ذات تأثير، تحديدا أثناء دراسته في المملكة المتحدة. ومن عَجَبٍ أن تحول إثر عودته إلى السلك الدبلوماسي دون سابق تقدير، إذ كان مزمعا له العمل في السلك التعليمي، فحزم متاعه واتجه سفيرا لقطر في الهند، التي طاب فيها المقام قرابة عقد ونصف، إذ وجد فيها موطئا للتخفف وأرضا للاكتشاف، كما ومرتعا يفيض بالألوان المختلفة من الشعر سيما الشعر الصوفي الهندي، والفن والموسيقى، ولعل أهم مكتنزات الهند قد تجلت في اتصاله بالشاعر السوري عمر أبو ريشة، إذ توثقت بينهما عرى الصداقة، وجمعهما الود والشعر والأدب واهتمامات متعددة. وقدر له بعد ما غرس في تراب الهند نخيلا ووردا، أن ينتدب إلى الأمم المتحدة عام ١٩٨٩م، حيث قضى بها ردحا ناهز السبع سنين، وصادف أن تسنمت قطر حينها رئاسة مجلس التعاون الخليجي إبان غزو الكويت الغاشم أغسطس عام ١٩٩٠، فوجد نفسه في مواجهة سلسلة من المسؤوليات الثقيلة، لم يتخفف عنها كاهله إلا بعد انتقاله إلى تركيا، حيث وجد فيها أُنسا، ورِواء، وعودا إلى جذور تالدة، وتحررا من قيود جمة، حملته على المصاعب: "كان دافعي للعمل في تركيا هو محاولة العودة للجذور والروح". ولا ريب أن المعنيّ هنا هو الجانب الحضاري بطابعيه العربي والإسلامي في الإرث العثماني-التركي. في ٢٠٠٢م بلغ العمل الدبلوماسي الطويل ذروته، فتيسر له أخيرًا أن يلقي عصا الترحال بعد سبعة وعشرين عاما، ويشغل منذاك مستشارا ثقافيا لدى سمو الأمير الوالد. إن هذه المسيرة الدبلوماسية والشعرية لقصة عريضة تفيض بالفوائد والشواهد، وباب من أبواب ذاكرة قطر المعاصرة، ونظرة من نظراتها، ساهمت الأستاذة مريم النعيمي في جمعها وإخراجها، والاستزادة عبر قراءة محطاتها ونقد ملامحها وإبراز مآثرها. وبالرغم من أهمية هذا العمل وثرائه، إلا أن السيرة الذاتية للأستاذ النعمة تبقى ذات إلحاح، باعتبارها سردية - قل نظيرها - تجمع مراحل التطور القطري، منذ الأربعينيات الميلادية، ومؤالفتها بين مساقات مختلفة متباينة، وتبحر النعمة فيها، كما وارتباطه الوثيق بشخصيات أدبية وفنية محلية كالشاعر الطبيب حجر البنعلي والموسيقار عبدالعزيز ناصر العبيدان (ابن خاله)، وعربية مثل عمر أبو ريشة - كما تقدم - والطيب صالح وصلاح عبدالصبور. لقد كان الدكتور حسن النعمة قريبا جدا بمقدار نأيه، ونائيا جدا بحجم قربه، فلم يشبهه أحد.