18 سبتمبر 2025

تسجيل

قرية مروب الإسلامية في قطر

25 يناير 2021

تحدّثت في المقال الأخير عن علاقة القطريين بالبعثة الدنماركية التي وصلت عام ١٩٥٨ وقامت بأعمال بحثية من أهمها كان تنقيبهم قرية مروب شمال غرب قطر بتوجيه من المرحوم الشيخ أحمد بن جاسم بن محمد، إذ قاموا بعملٍ (حفري-أركيولوجي) تأسيسي من حيث طبيعته، ولكنه لم يكن اكتشافًا كما يُشاع عنه، فهذه القرية -كما أنازع- لا بد وأنها كانت معروفة لدى أهل قطر، ولا شك أنهم وقفوا عليها، وأجالوا النظر في أطلالها، وتبيّنوا ملامحها، وهم أولئك الذين عاشوا القرون السوابق على أرض قطر، بين حلٍّ دائم، وارتحالٍ دائر، في طلب تحصيل العيش وما شابه. وإذا كان معلومًا أن نمط العيش القديم من رعي الأغنام أو الإبل أو غير ذلك يقتضي تنقّلًا يوميًّا دؤوبًا، فهذا خير شاهد استدلاليٍّ على احتمالية أن الإنسان القطري في تاريخه، قد ساقَهُ مرعى مواشيه أو مرَّ به على موقع القرية، فرأها آثارها رأي العين مرارًا وتكرارًا، مما يؤكد أن القول بالاكتشاف الحديث للآثار التاريخية هو قولٌ غير دقيق على الإطلاق، وأنه يُضمِر في داخله دلالة سلبية، تجعل من السكان وكأنهم جهلة حتى في شؤون أنفسهم، وتعالوا عن ذلك، بل إن الأمر -كما أسلفت- معلوم ومشهود وحاضر في الذاكرة الشعبية للأفراد والجماعات، والذي منع من العناية به وإبرازه وتقديمه ليس إلّا غياب الشروط المادية اللازمة، فالناس كانوا منهمكين بتأمين الضروري من المعاش، ولم يبلغوا بعد المرحلة التاريخية التي تجعلهم يقبلون على التنقيب إقبالًا علميًّا مُركّزًا. وفي كل الأحوال، فإن الأكثر أهميّة في هذا الحديث هو منطق الفكرة التي أحاول شرحها قدر الإمكان، وهي أن ما يُطلق عليه "اكتشاف علمي" في أي مكان في الوطن العربي، غالبًا ما يشوبه بعض التضليل في جوانب رئيسية مثل الظرف التاريخي للشعوب العربية وما يتضمنّه من فتور الدافعيّة الثقافية، غياب الدولة أو عدم اكتمالها، مواقع الهيمنة، علاقات القوى، وسلطة المعرفة لاسيّما المعرفة المتسيّدة التي ترسم الألفاظ وتحدد المعاني وتضبط اللغة، إضافة إلى توفّر الأدوات الإجرائية المطلوبة من عدمها. ولنا في واقع الحال أن نستعير هذا المنطق ونسحبه إلى مواطن كثيرة مختلفة، من أجل الظفر بقياسٍ دقيق يضع الحقائق التاريخية في نصابها، كتاريخ المخطوطات العربية وعلاقته بالاستشراق والمستشرقين، وأن اكتشافاتهم ليست اكتشافات بقدر ما هي إبرازات دفع بها تفتّق القوّة الغربية وبروزها، مقابل اضمحلال الرابطة الحضارية الإسلامية في ظل تفكك بلدانها. وأؤكد مرة أخرى أن منطق التحليل باق ولو تغيرت الأمثلة. أردت من خلال هذه المقدمة أن أضع القارئ العزيز في السياق المركّب للموضوع، مُراعيًا تفكيك دلالاته المُضمَرة، ومُحاولًا استنطاق الأسئلة الصامتة في ذهنه، والإجابة عليها. لقد تعاقب على تنقيب قرية مروب الإسلاميّة فريقان علميّان، وهما البعثة الدنماركية ١٩٥٨-٥٩ والبعثة الفرنسية ١٩٧٩-٨١ إذ يفصل بينهما قرابة العقدين وأكثر، وقد أرجعت البعثة الأولى تاريخَ القرية -عبر دراسة آثار القلعة الموجودة- إلى أواخر العصر الأموي وبدايات الحكم العبّاسي، بينما رجّح الفريق الفرنسي أن تاريخها يعود إلى الفترة العبّاسية، استنادًا إلى مقارنتها بخان عطشان، وهو مبنى أثري يقع في بادية العراق، يرجع تاريخه إلى العقد السابع من القرن الثاني هجريّة، ويماثل في تخطيطه العمراني قلعةَ مروب، كما أنهم عثروا على جرّتين خزفيتين لونهما أزرق مائل للاخضرار، أظهرت نتائج التنقيب أنها تعود إلى القرن الثالث هجريّة. وقد قام الفقيد محمد بن جاسم الخليفي (١٩٥٧-٢٠١٦) مدير إدارة المتاحف والآثار في إعداد كتاب تقريري كامل بعنوان "آثار الزبارة ومِرْوَب"، طُبع عام ١٩٨٧م، ضمّن بين ثناياه تفاصيل عمليّتي التنقيب من الجهة التقنية البحتة، موردًا مساحة القلعة وقياساتها وأبعادها، وصفة بنائها من الصخور المتناثرة في قفارها، والطين الطبيعي الذي كان يُؤتى به من الوديان المجاورة، دون التطرق إلى الجانب التأريخي، إلا في مقدمة الدراسة، التي أشارت إلى المعنى اللغوي لكلمة "مروب"، ولم تزد على ذلك شيئًا. وحتى تتضح لنا مسألة التأصيل اللغوي لهذه المسألة أكثر، يأتي تتبع تاريخ اللفظة في المعاجم العربية عملًا لا بد منه. جاءت كلمة مروب في أكثر من معنى، ولكل منهم مدلول، من ذلك ما أورده ابن منظور في لسان العرب،"والمِروْب: الإناء والسقاء الذي يروب فيه اللبن، وفي التهذيب: إناء يروب فيه اللبن. قال عُجيّزٍ من عامرِ بن جندب: تبغضُ أن يظلم ما في المِروْب، وفي المثل: «أهونُ مظلوم سِقَاءٌ مُرَوَّب»، وأصله: السقّاء يلف حتى يبلغ أوان المخض، والمظلوم: الذي يظلم فيُسقى أو يُشرَب قبل أن تخرج زبدته". وذكر الأزهري في معجمه [تهذيب اللغة]: "وروى أبو عبيدة، عن أبي زيد في باب الرجل الذليل المستضعف: أهون مظلوم سِقاءٌ مُرَوَّب. وظلمت السِّقاء، إذا سقيته قبل إدراكه" وقال أيضًا: "والمُروَّب: الذي لم يُمخَض بعدُ وهو في السقاء، لم تُؤخَذ زُبدَتُه" والمخض - كما هو معلوم- تحريك الشيء بشدّة، ونقول في الدارجة الشعبية، خُضّ الشيء، أي: هُزّه بشدّة. وقال آخر: "طوى الجراد مِرْوب ابن عثجل لا مرحبا بذا الجراد المقبل" أي وقع على رعيه فأكله فجفت ألبان إبله فطوي مروبه، وله موقع حسن في الإسناد المجازي". (المصدر: أساس البلاغة للزمخشري؛ مادة: روب) يظهر لنا من خلال هذا العرض اللغوي الموجَز أن كلمة مروب تأتي على أكثر من وجه، فهي: ١- مِرْوَب -بكسر الميم وتسكين الراء وفتح الألف- أي: الإناء الذي يوضَعُ فيه اللبن. ٢- مُرَوَّبْ -بضم الميم وفتح الألف والواو- وهو اللبن الذي لم يُخَضُّ بعد فلم تظهر زبدته. ٣- ووجه صرفي وهو مُرَوِّب - بضم الواو وفتح الراء وكسر الواو- فاعل من رَوَّب. لقد كان الجانب اللغوي مهمّا للغاية على صعيد تأصيل التسمية، والتي كما يبدو لم تُولّ أهمية تُذكر من قبل، إلا لماما، ونتيجة لهذا التأصيل نجد أن كلمة مروب اتفقت في جوهرها المعنوي واختلفت في دلالاتها بعض الشيء، ومن الصعوبة بمكان أن نضبط بجزمٍ أي الوجوه التي كانت تُسمّى بها قرية مروب الإسلامية، هل كان الوجه الأول أم الثاني أم الثالث؟ -أعلاه-. لم تستطع المصادر التاريخية القليلة التي تعرّضت لتاريخ القرية البالغ حجمها ٢٥٥ منزلًا، وتاريخ قلعتها العسكرية، التوصّل إلى الحد الأدنى من المعلومات أو الإشارات، التي تمكننا من بناء خلفية موضوعية واضحة عن التطور التاريخي الخاص بالقرية، فكل ما نعرفه عنها هو بضع شذرات أغلبها كانت نتائج التنقيب الحفري، إذ توصّلت إلى الفترة الزمانية المرجّحة لتأسيس القرية ونشأتها. ولكن بَقِيَت المساحة اللازمة من التنقيب التأريخي-البحثي: غائبة، إذ نحن لا ندري متى هُجِرَتْ هذه القرية أو متى هُجِّرَ أهلها وكيف، ولسنا متأكدين من صحة بعض الأخبار الشفوية المتداولة في نطاق ضيّق، والتي تقول إن قرية مروب إنّما أُحرِقت من قِبَل القرامطة في نهايات القرن الثالث هجرية.