11 سبتمبر 2025

تسجيل

حنين الأوطان

25 يناير 2011

يطلق الوطن في معاجم اللغة على "المكان الذي وطنه الإنسان واستقر فيه"، قرر ذلك كل من: الخليل الفراهيدي في كتاب العين، والجوهري في الصحاح وابن منظور في لسان العرب والزبيدي في تاج العروس وغيرهم، واتفقوا على أن منزل الإقامة والمكان والمحل هو وطنه الذي يسكنه أو يسكن هو فيه. ومن عظيم أن أطلق العرب جمع هذا الاسم (الوطن وجمعه مواطن) على أقدس الأمور عندهم وهي ساحة الوغى والمعارك الحربية، فمشاهد الحرب عندهم أطلقوا عليها مواطن،. وفي التنزيل: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}.. ومنه الحديث "أصدق الناس من صدق في المواطن" وقد قال طرفة قديما: على موطن يخشى الفتى عنده الردى * * * متى تعترك فيه الفوارس هذا الموطن الذي يعيش المرء فيه جعل الله حبه فطرة جبل هو عليها، وإذا قرأت التاريخ تجد أن الحنين إلى الأوطان ربما لم يخل من أحد، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أنه وقف يُخاطب مكة المكرمة مودّعاً لها وهي وطنه الذي أُخرج منه.. روى الترمذي من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: "ما أطيبكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ. ولا أدل على عمق هذه الغريزة من أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم أن يرزق حب المدينة كما أحب مكة بل أكثر، أخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد. و(أو) هنا كما يقول علماء العربية بمعنى (بل) كما في قوله تعالى: "وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ" سورة الصافات: 147. فالوطن يمثل التاريخ عراقة الماضي وأصالة الحاضر وغده المشرق، والقرآن الكريم أثبت مبدأ هذه المحبة من خلال معادلة بين الوطن والحياة في قوله تعالى:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً" فجعل الخروج من الوطن كقتل الإنسان وفقدانه أعز ما يملكه وهو حياته. وليس هذا الحنين ساعة الرخاء بل وفي ساعات الشدة يحن المرء إلى بلده، حتى وإن جارت عليه كما قال الشاعر بلدي وإن جارت علي عزيزة وأهلى وإن ضنوا علي كرام وأثر أن الأصمعي أيضاً قال: ثلاثة أصناف في ثلاثة أصناف من الحيوان: الإبل تحن إلى أوطانها وإن كان عهدها بها بعيداً، والطير إلى وكره وإن كان موضعه مجدباً، والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر نفعاً. وفي الأثر ما يوضح لنا مراعاة الإسلام لهذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فقد أخرج الأزرقي في "أخبار مكة" عن ابن شهاب قال: قدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على عائشة رضي الله عنها فقالت له: يا أصيل!كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، قالت: أقم حتى يأتيك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلبث أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (يا أصيل! كيف عهدت مكة؟) قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق اذخرها، وأسلت ثمامها، وأمشّ سلمها، فقال: "حسبك يا أصيلا تحزنا" وأخرجه باختصار أبو الفتح الأزدي في كتابه "المخزون في علم الحديث"، وابن ماكولا في "الإكمال". وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويهاً يا أصيل!دع القلوب تقر قرارها. ومما أنشده رفيق بن جابر وهو من شعراء الأندلس في تنبيه الغير من الكلام في أوطان من ينزل عندهم، وأنهم لا يقبلون في أوطانهم قدحاً: لا تعاد الناس في أوطانهم قلَّما يُرعى غريب الوطن وكان بلال ينشد ويقول: ألاَ لَيْتَ شَعْرِي هَلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إذْخِرٌ وجَلِيلٌ وهَلْ أرِدَنْ يَوْما مِياهَ مَجَنَّةٍ وهَلْ يَبْدُونْ لِي شَامَةٌ وطَفِيلُ اللهم احفظ هذا البلد ومن فيه على ما هم فيه من خير وسداد في الرأي ورفعة في المقام، واصرف عنا شر كل ذي شر وكيد كل ذي مكر وحسد كل حاسد.