11 سبتمبر 2025

تسجيل

العرب ما بعد تونس

25 يناير 2011

ستدخل وقائع ثورة الشعب التونسي كنقطة فاصلة في تاريخ العرب، فعلى مدار الأسبوع الماضي وحده، كانت حركة الشعب التونسي وتفاعله مع المستجدات تؤكد أن الشعب التونسي يعرف ماذا يريد وقرر الحصول عليه، ويحصل عليه. يعلم قيمة الزمن فلا يضيعه من بين يديه، وأيضا لا يستعجله. ومن السمات التي تشرق مع النجاحات التي يحققها الشعب ما يمكن أن نسميه "التواضع" كدلالة ثقة، والاعتراف "بدور الشباب" كدلالة وحدة رؤية، وفتح الباب على مصراعيه بلا تحفظ لمن يريد الانضمام لمسيرة التغيير، والتبدلات في موقف الأمن من المسيرات الشعبية بعد رحيل "بن علي" دليل يؤكد ذلك. بدأ التعامل الأمني كأن شيئا لم يتغير، ضرب بالعصي والأحذية، ووجوه تدمي، ثم استخدام كثيف للغازات المسيلة للدموع، ولتنتهي بمشهد إطلاق الرصاص في الهواء وبانفعال مريب، وواجه المتظاهرون كل ذلك بالمصافحة والأحضان والجلوس على الأرض، لينتهي الأمر بانضمام رجال الأمن إلى المظاهرات وقيامهم بإضراب في بعض المواقع. تفاعل متبادل بين أطراف المجتمع يؤكد نجاح التظاهرات الشعبية المستمرة في بدء استقطاب قوات الأمن إلى جانبها. لم يغب عن الشعب في حركته من هو الخصم؟ وما الهدف؟ وكيف الوصول إليه؟ فالهدف إزاحة النظام كله، بشخوصه وحزبه ودستوره وقوانينه، وليس من سبيل إلا الضغط الشعبي بالتظاهر. وأصبحت سمة تونس أن كل صباح يحمل مهاما جديدة بهدف إزاحة نظام الاستبداد، وإتاحة الفرصة أمام قوى المجتمع للائتلاف، ويلاحظ أيضا أن لغة الحديث هي لغة الجماهير وليست طنطنة النخب، حتى أن المذيعين في حواراتهم المذاعة، تكاد تنتابهم حيرة عما يسألون وما الذي يحاولون استكشافه، فالوقائع غير نمطية. ولينضم اتحاد الشغل التونسي للمواجهة ويرفض الانضمام للوزارة، ويطالب بعزل بقايا النظام السابق، وتشكيل وزارة ائتلافية للفترة الانتقالية. يبدو مشهد الوزارة المؤقتة مهينا وهي تستجدي الشعب أن يبقي عليها، ذات المشهد الذي ظهر به بن علي وهو يقول "أنا فهمتكم"، بينما في حقيقة الأمر هو يستجدي الشعب أن يبقيه ولا يطرده. لا يمكن التعامل مع ما يجري في تونس بعيدا عن محيطها العربي، لأنها أقرب إلى الزلزال، وكأنها بيان تجريبي عما يجب أن يحدث وكيف يمكن أن يحدث. وإن كان العالم قد فوجئ بالوقائع والنتائج وفرض عليه ردود أفعال لم يكن يتوقعها تجاه عملائه، فهو من ناحية أخرى استدعى الانتباه للقادم من احتمالات. والمحيط العربي يشهد ألوانا متعددة من المواجهات، انفصال جنوب السودان عن الدولة (99%)، والاقتتال في اليمن بين جنوب يطالب بإلغاء الوحدة وشمال ينفذ تعليمات أمريكية فيما يطلق عليه مواجهة مع القاعدة، وفتحت سماء اليمن للطائرات الأمريكية تقصف ما تشاء وقتما تشاء وبالأجر، أو بالمعونات، ومواجهة تتصاعد في لبنان وتقترب من حافة الحرب الأهلية، أو تتجاوزها إلى حرب جديدة بتصورات غير تقليدية بين أمريكا وإسرائيل من ناحية في مواجهة الوجود العربي كله، ولبنان ساحة هذه المواجهة، وأيضا مواجهة بين الشعوب والأنظمة في مصر والجزائر والأردن. الجميع أمام حالة جديدة، ليست كما كانت قبل 14 يناير 2011، وكأن الشعب العربي اكتشف مكامن الخطر والقوة وخاض تجربة استكشاف القدرات، ووجد طريقة وعرف آلية الطريق، في حين يبدو الصراع واجبا في كل الساحات. وزيرة الخارجية الفرنسية ميشال اليو ماري كشفت حقيقة الموقف الفرنسي عندما عرضت في الجمعية الوطنية في 11 يناير الحالي على تونس الخبرة الفرنسية للمحافظة على النظام والتعامل مع التظاهرات، وهو الموقف الذي يتفق عليه كل الغرب وأمريكا تجاه المنطقة العربية باختلاف أقطارها وتجاه شعوبها. وكان إعلان الغرب الحرب على الإرهاب هو إعلان بانكشاف مواقفه تجاه قضايا الأمة العربية، وعناده وعدم تغيير هذه المواقف، والذي وصل بنفس الوزيرة أن تتحدث عن الأسير الإسرائيلي شاليط على أنه جريمة حرب، وتناست الوزيرة الفرنسية أن إسرائيل تحتل منذ 44 عاما أراضي صدرت بشأنها قرارات من الأمم المتحدة ويقضي القانون الدولي بعدم جواز ضمها، وغير هذا تناست موقف الجنرال ديجول في مواجهة وقائع حرب 67، شأنها في ذلك شأن رئيس فرنسا ساركوزي الذي كان والده عميلا للمخابرات الأمريكية في المجر عام 1956، وهو من تتهمه الفيجارو بأنه أحد أربع عملاء للموساد في فرنسا. أمريكا والغرب يتعاملون مع المنطقة كوحدة واحدة وهم من قسموها إلى أوطان ويسعون الآن إلى تقسيم المقسم وتفتيته، وهم في سعيهم هذا تجمعهم إستراتيجية واحدة الهدف فيها مواجهة "أمة تقطن هذه الأرض لها قومية جامعة"، ووجود هذه الأمة تهديد لمصالحهم فيها، سواء المكان أو مخزون الطاقة أو إمكانات النمو. وقد يكون التحرك الأمريكي لدعم انفصال جنوب السودان أو فصل دارفور، ولدعم الحريري و14 آذار في لبنان، ودعم أبو مازن في فلسطين، وجرائمهم في العراق على مدى عقدين من الزمن، تصرفات تبدو متسقة مع سياساتهم، ويبدو الغريب والمريب محاولة التجمل التي ادعاها أوباما تجاه الثورة التونسية. تؤكد المعلومات أن مسؤولين في الإدارة الأمريكية كانوا يبحثون عن الموقف الأفضل الذي يمكن للإدارة الأمريكية أن تعلنه بشأن الثورة التونسية، وهذا يعني بأن الإدارة الأمريكية بكل أجهزتها ومخابراتها ومؤسساتها الإستراتيجية فقدت بوصلة التعامل مع الحدث وارتبكت!! مما جعل تصريحات أوباما عن حق الشعب التونسي تمثل حالة نفاق مزر، ومحاولة تماسك في مواجهة ضربة موجعة تلقتها أمريكا والغرب في تونس. واكتشف الغرب عدم صلاحية الحكام التابعين له في درء الخطر عنه، وتحولوا إلى عبء عليه عندما اكتشفت الشعوب حقيقة ولائهم للغرب، وانتقلت من مطالب الخبز والعمل إلى مطلب الحرية والكرامة والعزة، لنفسها وليس لغيرها. واستحضرت ثورة الشعب التونسي دروس الحركة من أجل التغيير في يقين الأمة العربية: 1- أن التردد والخوف هو العائق الأول لحركة الشعب وأن الشباب هو رأس الحربة للحركة من أجل التغيير. 2- أن غياب الأحزاب والنقابات والجمعيات وحتى النخبة ليس معوقا لإتمام الحركة الشعبية، فهي ليست القوة الرئيسية للتغيير، بل بعضهم عبء على حركة التغيير. 3- أن القبول بالتضحية والاستعداد لها سيحرم السلطة من قيمة استخدامها للعنف كرادع لحركة التغيير. 4- أن انتحار محمد بو عزيزي لم يكن الحل ولكنه كان نداء لإدراك الخطر، والحركة الشعبية هي التي دفعت الثمن ـ100 شهيد ـ وحققت النصر باستمرارها ووعيها وشمولها للأرض والشعب وقدرتها على تطوير أدائها وتحديد أهدافها. 5- أن ما يجري بعد 14 يناير 2011 يتم في مناخ نجاح حركة الشعب التونسي وأثر هذا النجاح على كافة الأطراف الداخلية والخارجية. 6- التجربة كشفت أن الأمن مهما بلغت تجاوزاته فالقوات المسلحة حاكم لعدم تماديه في عنف العاجز بقاعدة "شمشون" وهدم المعبد. 7- أن الكيانات المستبدة مهما كان عنف رد فعلها فهي تنهار في مواجهة إرادة شعبية تملك قدرة الحركة وشجاعة المواجهة، وليس أمامها إلا الهروب. 8- أن الزمن لصالح حركة التغيير الشعبية، طالما حسن توظيفه، وجرى استثماره. 9- أن الثقة في شرعية حركة الشعب من أجل التغيير، وحق الجماهير في ذلك، هو مصدر رئيسي للقدرة، ومظلة جمع كل الشعب في مسيرة التغيير. 10- أن هذه الثقة بالحق في التغيير وشرعية التحرك من أجله، تمكن الحركة من الاستخدام الأمثل للوقت والجهد وعدم الانفلات، وتزيد من الثقة في إمكانية تحقيق الأهداف. 11- أن الشعب، وإن غاب التنظيم في بدايات الحركة، وغابت قيادة لها، إلا أنه يملك القدرة على إنتاج حركة شعبية تملك عقلا ذاتيا يفتح أبواب الإبداع أمام الإنسان المواطن، ويكشف مخزون الشعب من قياداته الطبيعية. ورغم محاولات المراقبين الغربيين حصار الثورة التونسية ونفي أي احتمال لتأثيرها عبر حدودها، إلا أن الأوضاع في اليمن ومصر والجزائر تعطي مؤشرات بأن المواجهة قادمة بين الشعب والأنظمة الحاكمة، وها هي في الأردن حركة شعبية لمواجهة الحكومة هناك رغم الخصوصية التي تحيط بالحالة السياسية الداخلية في الأردن. وها هي مصر تنتظر تجليات دروس ثورة تونس، فقد حدد الشباب يوم 25 يناير موعدا ليوم يعلنون فيه غضبهم وكان ذلك محل ملاحظة شخصية كتبت بها إلى البعض منهم، ألا يتم الجمع بين يوم استشهاد رجال الشرطة في مواجهة الاحتلال البريطاني مع يوم احتجاج على أداء الشرطة حاليا، ومع إصرارهم قلت هذا رأي والقرار لكم، ولكن الأمر الذي يثير الريبة، هو غياب الأحزاب عن المشاركة، وكذلك الموقف الذي أعلنته جماعة الإخوان أنها ترفض المشاركة لتوافق التاريخ مع عيد قومي، وهو قول يحاول التغطية على اصطفاف الإخوان في صف النظام الحاكم منذ نجاح ثورة الشعب في تونس، وكأنهم يعودون لمهمة مواجهة الحركة الوطنية والتي استدعاهم إليها أنور السادات. يواجه الشعب العربي ذاته، واستبداد السلطة، وغياب الأحزاب والقوى السياسية، والقوى الخارجية، ولكن دروس ثورة تونس الشعبية تؤكد بوجوب بدء التحرك لأنها لحظة مواتية.