10 سبتمبر 2025
تسجيلتحاول الثورة أن تكون نقطة انقلاب في منحنى المجتمع من الهبوط إلى الصعود، وعندما يتحرك منحنى المجتمع للارتقاء صاعدا هناك ما يتساقط منه بفعل التجاوز وجاذبية القديم وهناك ما يحتاج منه لطاقة مضافة تساعد على الصعود أو تعمل على التخلص من أسباب الهبوط. نتحدث عن ثورة يناير أنها أسقطت الخوف، ذلك السياج النفسي الذي يعيق الحركة ويدفع إلى تجنب المغامرة. ونتحدث عن ثورة يناير أنها كشفت أمام الشعب قدرته عندما تجتمع إرادته على فعل إيجابي، وأعادت إليه الثقة بالنفس. ونتحدث أن الشعب حضر ولن ينصرف، وأنه اكتشف معنى الاجتياح الشعبي للخطأ والظلم والاستبداد. ونجمل ذلك كله بأن ثورة 25 يناير 2011 أطلقت الإرادة الشعبية من عقالها، وظل السؤال التالي لإطلاق الإرادة، "لنفعل ماذا؟". صاحب الأيام التالية للثورة ظاهرة انفلات أمني واستمرت بعد يوم 11 فبراير 2011، وواجهها الشعب بتشكيلات شعبية بمبادرة منه وأطلق عليها "اللجان الشعبية" كانت تحرس المنازل والمتاجر وطرق المدن. كما صاحب كل هذه الأيام حالة من التواد بين المواطنين والالتحام كما تلك التي تنتجها الحروب بين أبناء الشعب، وظلت هذه الحالة سواء بإنكار الذات أو الإحساس بملكية الوطن وكل ما به، وظهرت ظاهرة بسيطة عميقة الدلالة، عندما قام الشباب والأهالي بحملات النظافة للميادين والشوارع، إحساس بالملكية فتح باب الإحساس بالمسؤولية. لم يحاول أن يقول أحد أنه الثورة، وتحول أصحاب الثورة إلى جنود مجهولين، حتى أنك بمناقشة المشاركين في الاحتشاد تشعر مثلا أن ميدان التحرير كان عشرات الميادين بعدد من فيه وبعدد مجموعاتهم، وأن الإسهام المتنوع من كل منهم صنع سيمفونية بلا مايسترو وبدون نشاز في لحنها. ذلك كله كان الحركة الذاتية بطاقة كامنة، أنجزت فعل انقلاب المنحنى، لتنتقل الحركة الذاتية إلى مرحلة جديدة تحتاج لتحديد اتجاه المنحنى الصاعد هل هو صعود رأسي مباشر، أم أنه يميل بدرجات عما يجب، وبدت الحاجة إلى طاقة مضافة، ما كان لها أن تتوفر بعد أن أصابت موجة الثورة حالة من السكون والإحساس أنها حققت غايتها، لتبدأ مرحلة استدعت بديل طاقة البناء، ضرورات مقاومة الانهيار لحركة الثورة ذاتها. وصارت الميزة الرئيسة التي جمعت طاقة الاحتشاد وفجرتها، بكونها تلقائية، الكل أصحابها، والكل مسؤول عنها، والكل مبادر فيها من الجهد حتى الروح، تحولت هذه الميزة إلى نقطة ضعف في حركة موجة يناير 2011، فمهام الصعود صارت في حاجة إلى رؤية وآليات وقيادة، ونتج فراغ مصنوع ومستهدف أو هو من طبيعة الحاجة لطافة الفعل الثوري التي انغمست في المقاومة. الشواهد المرصودة طوال الفترة الماضية تؤكد أن العاملين توافرا، غياب الرؤية والآليات والقيادة، ومخطط للاستيلاء على الحدث وإعادة توجيهه. عند هذه المرحلة كان أهم الأدوات هو الادعاء وإعادة توصيف الحقائق على غير حقيقتها، ليدخل "الكذب" كصفة التصقت بالأشخاص وما يمكن أن يجمعها في اصطفاف منظم، وكانت البوابة الجهنمية للانقلاب على الحقائق هي استخدام الدين في توصيف القوي والمواقف لتتحول السياسة إلى حالة من حروب الجاهلية الأولى. لم تتوقف المقاومة، ولم يغب الوعي، وعندما أحس الشعب أنه لم تسرق منه الثورة فحسب ولكن يهدر الوطن والدولة تحت اتهام بالتكفير يتجاوز طبيعة الشعب، ليستفز الشعب من جديد، دفاعا عن دينه ووطنه ورفضا لحالة القرصنة التي جرت علي مقدراته. الحديث عن الشعب هنا ليس حديثا عن كيان هلامي، ولكنه حديث عن أمة عندما تتعرض للخطر تستدعي قدرة التوحد، وللمرة الثانية نعود إلى الطاقة الكامنة في الشعب، مع إضافة جديدة كانت تنمو علاقتها بالانفصال عما تشكل من مراكز سلطة في أعقاب الثورة نتيجة وضوح الدروب الجانبية التي انساقت إليها السلطة وحالة الصدام مع كافة مكونات الدولة، بصلافة وعنف ولغة غريبة عن هوية الوطن، ونمو وعي مغاير لمجرد الانقلاب علي اتجاه التوريث الذي كان قائما قبل يناير 2011، وكانت لحمة جديدة بين الشعب وقواته المسلحة، حرمت السلطة من القوة المادية المنظمة والمسلحة في الدولة، وأضافتها رصيدا جديدا لطاقة الرفض الشعبية الكامنة، ليتغير ميزان القوي، ولتنتج موجة يونيو 2013 واقعا جديدا، يزيح واقع تشكل بعد الثورة بخاصية "الادعاء". وتبقي خاصية "الادعاء" هي عقيدة السلطة المزاحة ومن والموالين لها. الادعاء بأنهم هم الثوار. والادعاء بأن الشرعية تنتجها صناديق الاقتراع، حتى وإن تم الاقتراع بالأساس وسط حالة القرصنة على الثورة. ثم الادعاء بأن ما جرى انقلاب على الديمقراطية، وللديمقراطية حلفاؤها الخارجيون، والديمقراطية يمكنها أن تستعين بالأجنبي ضد الوطن لأنها قيمة أسمى. ولم يكن للادعاء أن ينتج دون أن يتفكك الوطن بالعنف، لترد لغة الدم، والغريب أن لغة الدم والتباكي على الضحايا هي عقيدة التحريض على الوطن بعد يونيو. اختلطت المعايير، ولم يعد الأمر وطن تعرض لسرقة ثورته بالتكفير، ولا تقسيم شعبه دينيا ومذهبيا، ولا الاستهانة بالتفريط المتتابع في الأرض، وتجاوز الأمر الاستقواء بالحلف الديمقراطي متجسدا في أمريكا والناتو، إلى الاستقواء بالجماعات الإرهابية تحت عباءة الدين، حتى القضية القومية في الاحتلال الصهيوني دخلت المزاد وصارت قابلة للبيع والشراء مقابل التمكين. وانطلقت معايير الادعاء بالانقلاب العسكري علي دولة الديمقراطية مع الخارج، وعلي دولة الشرعية الإسلامية في الداخل. الانقلاب من السلمية إلى العنف ليس تعبير عن قدرات، ولكنه تعبير عن حالة الصدمة التي أحدثها 30 يونيو 2013 على المستوى الداخلي في مصر، وأحدثه 26 يوليو على المستوى الخارجي، وكسرت الصدمة الشرنقة التي احتمى بها التحالف الأمريكي والإخوان مع الجماعات الإرهابية وحالة الاستدعاء لهم للداخل المصري. الانقلاب إلى العنف استدعي القبول بالمواجهة بالسلاح، وفتح الباب للقبول الشعبي للمواجهة الأمنية وبالعنف مع تصاعد الأحداث، ووضعت جماعة الإخوان والموالون لها المبرر تلو الآخر، سواء في سيناء او في الداخل، في دلجا وكرداسة والإسكندرية والقاهرة، وبات الحديث عن المبادرات محض وهم توصم به رؤى العقلاء لأنها لا تجد إذن تسمع، ولا ضمير يقر بالحقائق، بل صارت أقرب إلى المناورة منها إلى القصد والهدف. الفارق بين السلمية والعنف في مصر، هو فارق بين الانتماء وعدم الانتماء، هو فارق بين المستقبل واللحظة، هو فارق بين الوطن والتنظيم. من يمارس العنف يحرق الأرض التي يحيا عليها، دون أن يقدم مبررا بأن العنف الذي يمارسه سيفضي إلى تغيير. العنف في مصر الآن لا يدفع ثمنه نظام ولا أشخاص، ولكن يدفع ثمنه كل الوطن وكل من يمارسونه. وانتقل "الادعاء" كمنهج، إلى حالة جديدة هي شخصنة المواجهة، فقتل المسيحيين لأن البابا كان مع الانقلاب ضد الإسلام والشرعية والديمقراطية، بينما أن تاريخ الجماعات يقول أن هذه عقيدتهم، لا يرون المسيحيين مواطنين مصريين، ولكنهم عدو يستحل دمه وماله ودور عبادته. والأزهر الذي سعوا إلى السيطرة عليه بكل السبل، أصبح مستهدفا في شخص شيخ الأزهر، ويجري الاغتيال المعنوي له ولمؤسسة الأزهر. ويونيو 2013 صار ممثلا في القائد العام للقوات المسلحة. وانتقلنا من الصدمة والادعاء والعنف والشخصنة إلى الانفلات الأخلاقي، وصار الاعتداء علي بعض من يرتدون الزي الأزهري بالسب دلالة موقف سياسي!، وكانت حادثة التعرض لمفتي مصر السابق في كله دار العلوم أمس الأول أثناء مناقشته لرسالة دكتوراه إهانة لمعنى الجامعة والأزهر والأستاذ والطالب وحتى الثورة، وأعادت إلى الأذهان يوم خرج طلاب الجامعة في مواجهة طه حسين ليسبوه بالعمى، وبقي طه حسين وأعماله وذهب كل من شاتمه. هل يمكن أن يقبل المجتمع المصري كل هذا؟ أو ينطلي عليه تبريره؟، وأن يقبل المصالحة. لقد واجه الشعب صدمة أولى عندما جرى تكفيره، وانتهى إلى تطاول على مؤسساته، ثم شخصنة الموقف، وفقد في الطريق أشخاصا عديدين ومنهم الدكتور البرادعي ذاته، والذي تنقل المعلومات انه عقد لقاءين، أحدهما مع عناصر من الاتحاد الأوروبي، والآخر مع عناصر لقيادات إخوانية، وأنه عندما تنقل مثل هذه الأخبار إلى الداخل، فإنها تضع جدول أعمال واحد هو في كبده ضد مصر. الكل تصرف على غير إرادة الشعب، وبقدر أن فعله أفراد أو جماعات أقصاهم عن القبول، غير أنه يزيد من حالة إحساس بالإحباط، أن المشوار مازال طويلا، وأن المعاناة ستبقي طريق الآلام الذي يجب السير عليه. إن تنامي الوعي الشعبي يزيد من الاقتراب من الحقيقة، وكلما أمسك الشعب بحقائق واحتياجات الوطن، اكتشف أن المطروح عليه من أشخاص دون ما ينشد ويريد، واحترقت الأرض بأسماء وكيانات، وهو ما ضاعف الألم وانعدام الثقة لدى الجماهير فيمن يعرضون أنفسهم كلاما دون قدرة، ولمناصب دون إمكانات، وأصبح البحث عن قيادة مجردة عن الذات ولصالح الشعب كالمستحيلات الثلاثة. إن الثورة وهي علم تغيير المجتمع، هي بناء للأمة، وبناء الأمم دون أخلاق نبيلة وفروسية زعامة ووضوح للرؤية وبناء مؤسسي يقارب العصر وعلومه وطاقة شباب الأمة دون نزيف تسببه الحرب النفسية والتشكيك، هو مجرد أحلام يقظة، وهكذا من جديد تعود الأوراق ليد الشعب ليتخذ الموقف بذاته، بينما يطيب لغيره أحلام غير مشروعة علي جدول أعمال الشعب، وسلوك منبوذ يفرض الإقصاء منهجا بينما تتصاعد دعوة الوجهاء للمصالحة، بينما الخطر المحيط بمصر متروك بعيدا عن بالهم، ولا يملكون غير التطاول علة من يتصدى له.