12 سبتمبر 2025
تسجيلفي 1975، تعلمت المنقلة، ولعبت مع أخي مباريات لا يحصيها العدّ، حين نحمل خشبة الجوز بدوائرها الغائرة، من دار إلى دار، طوال صيف مديد. لم أكن لاعبًا جيدا، ولا مدمنًا، ولكني تعلمت أن البيوت ترحل وتنزل، وأن البيوت تفرغ من حجارتها مهما امتلأت، وأنّ أفضل المباريات وأشدّها حماسة، هي التي تنتهي في اللحظات الأخيرة، بزيادة حجر وحيد على الخصم، يسمونه "القعود" -نسبة إلى ابن الجمل- تماماً مثل مباريات الكرة التي تنتهي بضربات الجزاء، وعندما يكون في رصيد اللاعب خمسون حجراً، فإن المباراة صارت في اليد. وها أنا أضع خمسين حجراً في بيوتٍ كثيرة، شهدتها ست محافظات، في سوريا، وست بيوت أخرى في الدوحة، صلصل الحجر فيها على شواطئ، ودروب وفي مساءات وأصابيح. أنا فزت بالقعود، ولم أتخبّأ من "درب الأعمار"، لعبت الكرة، وسددت طويلاً على أهداف بعيدة، ركبت باصات كثيرة، وركبت القطار الأحمر المكتوب على عرباته بخطوط نافرة خ ح س، جرّبت اليُتم، صغيراً، وعاشه أطفالي قبل سنوات، حشوت ذاكرتي بنصوص رديئة، وهربت إلى حكايات جدّيّ، تركت المنقلة والشطرنج إلى كرة القدم، استأجرت مع الطلاب والعساكر، غرفاً تنقطع عنها الكهرباء، ويرسم المراهقون على حيطانها الكلسية صورا لفتيات قادمات من الحلم. خمسون حجراً؛ جمعتها "قعوداً قعودا، ورِجعة رجعة"، فزت فيها بأولاد وأحفاد، وصور مختلفة، ورعيت فيها الدواب، وشاركت أخوالي الرحيل والنزيل في أكثر من ربيع، عرفت نبات الصحراء، ولحم الخراف المطبوخ باللبن، عرفت مدرّسين وطلاّباً قرأت لهم شيئاً من المعرّي. اخترعت مع إخوتي عشرات الألعاب في بيت صغير، مازال هناك على شفا حروب لم تنتهِ. خمسون مرّت، لا جرس ولا مرياع، سأقول يوماً: لا تسأل الخمسين ما فعلت، وأنتظر أصدقائي الشعراء أن يزيدوا على ما لم أزد، خمسون من حجر وغيم ودروب، ولا أجد حجةً للتعرف إلى جاري الجديد، فالدكاكين التي لا تنام، تجعل من العيب أن تدق باب جارك لتستعير شيئاً، خمسون مدروزة بآمال صغيرة، وجلاءات وشهادات خبرة، وقصائد منشورة في صحف محلّية. فاز أبي بالقعود، ولم يزد، وفاز جدّي بكلّ الحجارة، وزاد عليها، ومازال أقارب لي يلعبون مع الحياة ويكسبون حجارة، في حين يموت الأحفاد في الجبهات المشتعلة، مع كلّ الجهات وضدّ كلّ الجهات، شباب راغبون في الموت الجديد، الموت الذي تعقبه كلمات قصيرة، وصور، ثمّ تمضي الأمّهات في حدادٍ أبديّ، لا يعرفه أمراء الحرب.