12 سبتمبر 2025

تسجيل

حول البداية والنهاية

24 يوليو 2022

صرخات ألم وحياة تغشى أرجاء الغرفة، تنذر بانبلاج روح جديدة في هذه الحياة، تتلألأ طهراً وبراءة، قليلة الحيلة، طرية البنية، كل ما تبصره يبدو غريباً عن عالمها، ذلك العالم المحدود في قرار مكين، فهي تراه لأول وهلة، فترى أحداقها تتقلب في أرجاء المكان تحاول أن تكتشف أكثر، لتجيب عن أسئلتها: أين أنا؟ ومن هؤلاء؟ ولماذا أنا هنا؟ ومن جاء بي لهذه الدنيا دون أن يكون لها الحق في القرار؟ وما كمية هذه الوجوه المستضحكة؟! اهل يبتسمون لها؟! أم يتبسمون لاكتمال سعادتهم في مراسم احتفال مبهرج، يُحيونه بعيداً عن الاكتراث لمشاعر هذه الكبد الرطبة، أما هي فتعاني صعوبة حل الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي تتقافز هنا وهناك تبحث عن أجوبة! هكذا يأتي الإنسان لهذه الحياة بلا حول ولا قوة بعد الله تعالى، لم يختر اسمه ولم يختر والديه وعائلته ولا قبيلته وبيئته ولا جنسه وجنسيته، ليكون جزءا من واقع فرض عليه، ففي وجوده إما نعمة لغيره أو نقمة، ولكنه يجهل ذلك، فالعلم عند علام الغيوب، فهو مذ نعومة أظفاره يقر بالتسليم المطلق لله سبحانه ويفوض أمره لله في المقبل من الأمور، دون شعور منه بذلك، فهو كاللوحة البيضاء لم يتم تلويثها بالألوان السامة وغير المتناسقة بعد. فهي روح قد أضيفت لأكوام أرواح لا تعلم إن كانت فرحة لغيرها أم شقاء على نفسها، ولن تستطيع أن تفهم ذلك في وقتها، ولكن ربما غداً ويا ويل قلبي من غدِ. وينمو ذلك المخلوق ويتشكل يوما بعد يوم، وعبر تواتر السنين، عندما نعود لنلقي نظرة على لوحته البيضاء فسوف تفزعك بشاعة الألوان المتبعثرة هنا وهناك بشكل عشوائي، والصور المشوشة والرسوم الفوضوية، وربما قد نجد هناك انسجاماً باهتاً في بعض الخطوط والألوان ولكن ما زالت اللوحة غير مفهومة، وما زال لا يستطيع أن يعبر عنها. فيلهث طوال طريق العبور يحاول قراءة اللوحة وفك شيفرتها، وتتبع ألوانها المتشتتة، فيتخبط في مسارات رونقها غير مدرك لقلب عمقها السحيق، ويلاحق أفكارا لا يسبر أغوارها، ويطلب شغفاً يتلألأ في نفسه فبات سراباً في صحراء رحلته القاسية، أو ربما ركب الوقت في سباق مع الزمن، من أجل حاضر يرهقه أو مستقبل يؤرق مهجعه، فتراه يوماً ظالماً وآخر مظلوماً، ومرة غالباً وأخرى مغلوباً، وسعيداً حيناً، وكثير من الأحيان مهموماً حزيناً، وتارة يكون كالنار الحارقة يتلظى لهيبها، وأخرى كماء الينبوع قد رقت حواشيه وأرهفت، وهو في هذا الحال بين مد وجزر، وتسارع وتباطؤ، وتمدد وانكماش، تعجنه سود الأيام وتبريه السنون، وتجرفه السيول صعوداً وهبوطاً، وتفرمه تروس الظروف بأسنانها الماضية، إلى أن يستفيق من جنونه وقد أدرك آخر المعبر، مذهولاً نادماً، ولكن بعد أن غيض الماء، وهُزم الجيشان، وباغته الناعيان، وعاد غريباً كغربة الأمدان، فقد غفل عن زاد رحلته، وغاية خلقه ووجوده، ووصل إلى حدود الخاتمة، محسوراً مذموماً، فلم يستوعب أن حضوره اليوم بعد أن تلاشى ذلك العائق الصعب ليصل إلى الوجود الرحب، إلى الخلود، أهم لحظة كان يتوجب عليه الانتباه إليها والعمل لحين وقوعها، فها هو يعود كلحظة الميلاد غريباً في بضعة أمتار، تحت سقف المجهول معزول وحيد، غابت عنه تلك الوجوه المستبشرة، واختلفت أشكال المراسم، ولكنه يعود مرة أخرى يبحث عن أجوبة ويحاول حل الأسئلة، إلا من رحم ربي، فتسلح بحبل الإيمان وتزود بالعلم والفكر المستنير، وجاهد نفسه ودنياه حتى النهاية، وسخر قوته وقدرته وأدواته في خدمة الأرض، والإنسان، وطال نفسه حتى آخر السباق، فلا يكترث لجائزة الدنيا بينما تنتظره مكافأة الآخرة، ولا يبالي لشهرة، فإن غيّبته فلول الأرض، فهو حاضر لدى ملوك السماء، فهو لن يرتقي المجد والرفعة سلماً للسماء، وإنما سيصنع مصعداً بأعماله الحسنة وأفعاله الطيبة وبطولاته وإنجازاته الخفية، فتخفى عن الناس ولا تتوارى عن ربهم. فما الذي جعله على هذه الحال؟ ألم يختَر له كبيرا؟ ألم يجد له حكيما؟ ألم يكن له رحمن رحيم؟ ظل يصارع زوبعة الحياة ويتعارك مع رياحها النكباء، بسيف مهزوم ودرع من عهنٍ منفوش، لم يتذوق الراحة ولم يهنأ بالسعادة ذلك الحلم الكاذب الذي دفع ثمنه غالياً ليتحقق ولن يتحقق أبداً، لقد رأى كل شيء وغاب عنه أثمن شيء، ذلك الكنز الذي كان بين يديه ولكنه كان يتناساه كثيراً، أو ربما غفل عنه، ودفنه على الرف أزمنا ودهورا، فلو رأى ضرورته لروحه كما يرى ضرورة الماء لجوفه واستمراره، ولو أدرك أنه لا مجد ولا حضارة ولا علم من غيره، فلو اهتدى بهذا الدليل في هذا المسير المضطرب، لسيق لبر الأمان سوقاً، ومضت الرحلة في اطمئنان، ولكن هل يتعظ الإنسان؟! «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا».