04 أكتوبر 2025
تسجيلفجأت تحدث نيشان، وكان صوته غريبا، صوت رجل يتحدث من خلف رعشة حمى: إلى أين نذهب؟، أراك تقود منذ أكثر من ساعة، بلا نية في الوقوف؟ لم تكن لدي إجابة حاضرة لتساؤله، تلفت حولي، وكنت لدهشتي، في حي السكة الحديد، قريبا من محطة القطارات الرئيسية، حيث تقيم أمي الروحية ملكة الدار، في الواقع كنت أمام بيتها تقريبا، ولا أعرف كيف وصلت إلى هنا، كأن ثمة حبلا غير مرئي، جرني، لكني أحسست بارتياح ما، وبيت أمي الروحية، هو بيتي الثاني، أزوره كلما احتجت إلى وجه أم، ورائحة أم، وطعام تعده أم، ولن يكون غريبا إن دخلته الآن، ومعي ضيف، لأنني فعلت ذلك مرات كثيرة، آخرها منذ شهرين حين اصطحبت معي حكاء قديما اسمه إسماعيل، أردت منه بعض الإيضاحات عن تاريخ العاصمة البعيد، ورفض إعطاءها إلا بعد وجبة من طبيخ (التركين) الشعبي، ولم أكن سأجد مثل تلك الوجبة شبه المنقرضة، إلا في بيت ملكة الدار. كان بيت ملكة الدار رحبا، ولا أعني رحابة المكان الجغرافي، ولكن رحابة الصدر، حيث أجده في كل وقت يؤوي كثيرا من الغرباء أو أهل قريتها الأصلية، في شمال البلاد، الذين تقطعت بهم السبل في العاصمة، وقد أفردت في جانب من حوشه الواسع نسبيا، غرفة كبيرة بعض الشيء، تضم أسرة وألحفة، وبرادا صغيرا للماء، ويمكن أن تضم الطعام، في أي وقت. كان الباب في مواجهتي تماما، وقد جدد لونه الأخضر الزيتي، وجددت كتابة الإعلان عن حج صاحب البيت: حجا مبرورا وذنبا مغفورا وعودا حميدا، وكانت ملكة الدار قد أدت تلك الفريضة مرة برفقة زوجها، ومرة أخرى بعد وفاته من ضمن فوج رسمي. كان دخلها من عملها المسائي، الذي لا تزال تمارسه، ممرضة لدى أحد أطباء النساء والتوليد المعروفين، حتى بعد تقاعدها عن العمل في الحكومة، كفيلا بإنعاش بيتها، وإنعاش حياتها كلها. طرقت الباب، ففتحت بنفسها، ولاحظت أنها تعرج قليلا، وأعرف أن ثمة خللا في مفاصل ركبتيها، بفعل السمنة، وتقدم السن، قد بدأت أعراضه تتطور. وربما تحتاج لمفصلين صناعيين في وقت قريب، كان البيت خاليا في تلك الساعة، كما بدا لي، الأسرة في غرفة الضيوف المفتوحة، تبدو فارغة، الألحفة مطوية، وصوت رضيع كأنه ممغوص، ينز من إحدى الغرف الداخلية، خمنت أنه لابنتها فاطمة، وكنت قد لاحظت تثاقلها بفعل الحمل، في آخر زيارة لي قبل سفري لماليزيا. سألتها: - هل وضعت فاطمة؟ - نعم، جاءت بذي النون منذ تسعة أيام، ولم تكن موجودا لأخبرك. متى عدت؟ لم أستغرب أبدا، أن يسمى طفل حديث الولادة، باسم متسع على سنه، وبعيد جد عن أسماء المواليد الجدد في تلك الأيام. وكنت أعرف أن ملكة الدار وأسرتها يعشقون الأسماء القوية، يفرضونها على أصهارهم حتى لو كانوا غرباء، وينظرون إلى أسماء الرجال الحداثية الناعمة، نظرات مليئة بالشفقة والتحسر.