10 سبتمبر 2025

تسجيل

الماء والجرانيت والفلاح الفصيح

23 ديسمبر 2012

استطاع المصري القديم أن يقطع الجرانيت ليصنع مسلات الفراعنة بالخشب والماء، كان يصنع ثقوباً منتظمة على جانبي المسلة ويضع بها أوتادا خشبية جافة، ثم بنفس الانتظام وفي توقيت واحد يصب عليها الماء فيتمدد الخشب وتتولد منه قوة ضغط يمكنها أن تشق الجرانيت، لم يكن سحرا ولا شعوذة منذ أربعة آلاف عام. وهو ذاته المصري القديم في الوقت نفسه صنع إمبراطوريته حتى شمال سوريا وجنوب تركيا، وجنوبا إلى منابع النيل، وقاد تحتمس الثالث جيوشه لينتصر في معركة مجدون وسط فلسطين، وهو ذاته المصري القديم الذي بنى الأهرامات وأوجهها الأربع تطابق الاتجاهات الأصلية دون خطأ يذكر مع أحدث وسائل تحديدها، وبني الشكل الهرمي بأبعاد تجمع طاقة كونية داخله تحفظ الخواص الطبيعية لما يوضع داخله، فشفرة الحلاقة لا تفقد خواصها، ولبن الزبادي يحافظ على خواصه دون تلف. كان العلم والدين والصبر وإعداد القدرة وإمكانات الإدارة، هذه خواص المصري وهذه قدراته منذ آلاف السنين، وهو مخزون معرفته الذي يمكنه استدعاؤه، ولكن الزراعة غلبت الصبر ليتقدم مع التدين، دون أن يفقد باقي قدراته. هذا كله سبق الديانات السماوية الثلاث، وعندما جاءته الرسالات، وجد فيها إجابات محددة لأسئلة طالما راودته، مثلما ألحت على أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام. عرف الله وبحث عنه، وعرف العلم ونضج فيه واستخدمه، وما كان لمثل هذه الحضارة أن تستقر وتزدهر دون معرفة الوطن وحدوده التي تكفل له الأمن، فعرف الحرب ومارسها، وعرف الإدارة، حتى الفلاح خرج منه فصاحة المواطن صاحب الوطن ومالكه، فهو وطن الزراعة، وهو الوطن الذي أدار فيه يوسف (عليه السلام) التخطيط لخمسة عشر عاما، بين الرخاء والقحط، وعرف معنى العدل، ودون العدل ما كان ليوسف أن ينجح، وبدون قناعة البشر وإدراكهم بضرورة الحياة معا، لخرج عليه المصريون عندما طالبهم أن "يقتصدوا" زمن الرخاء، ولجاع البشر في سنين القحط، أو سرقوا أو تمردوا، ولكنه بناء العقيدة التي تعلمها المصريون في صدر التاريخ، انهم شعب واحد. من لا يضع ذلك كله في حسابه يسقط، ومن لا يدرك أنه الشعب وحده الذي يستطيع، وليس جماعة فيه، أو جزءا منه، وأن السبيل إلى الشعب هو العدل قبل الدين، فالأديان ما كانت لتبقى أو تسود دون أن تضع قاعدة العدل والمساواة بين البشر، والشعوب إذا اغتصب أحد حريتها زمنا، أو ظلمت، أو حاول تقسيمها إلى شظايا، تخرج عليها مهما طال صبرها، ولعل ثورة يناير تؤكد المعنى لمن يملك عقلا. الربط بين حقائق التاريخ هذه، وما يجري فوق أرض مصر الآن يقول بأننا أمام حالة لن يطيل عليها الشعب صبراً، ولكن الوقائع تؤكد أن من في السلطة لم يتعلموا التاريخ، ولا يملكون بصيرة لإدراك معنى يناير وثورة الشعب. العناد لا يبني ولا يحقق توافقا بين الشعب بفئاته، والدم لا يضيع حتى وإن شربته الرمال فإنها تنتج حنظلا، والعدل ليس قولا، ولكنه فعل يدرك الشعب أنه طريق العدل. وللمجتمع قانون يحكم الكبير فبل الصغير، وهذا ما انطق الفلاح الفصيح منذ آلاف السنين، فلا يستهين الحاكم بصبره وصمته، فهو صبر الجمال. أدرك الكهنة زمن المصري القديم، معنى الله ومعنى العلم، لم يعبد المصريون التماثيل البديعة التي أتقنوا صناعتها، ولم يخرجوا على الناس يضربون الدولة ويهدمونها ليبقوا، بل أدركوا أنهم دون الدولة القوية بكل الشعب، لن تكون لهم معابدهم ولا ربهم الذي يحاولون إدراكه، ويسعون إلى معرفة سر الخلق الذي أبدعه. خاطب الفلاح الفصيح الوزير المنحاز للعدل قائلا: "أقم العدل أنت يا من مدحت وارفع عني الظلم انظر إليَّ فإنني أحمل أثقالا فوق أثقال. أجب إليَّ الصيحة التي ينطق بها فمي وحطِّم الظلم ورسِّخ الحق فإنه إرادة الله أما الظلم فهو منفي من الأرض". "أأنت تستطيع الكتابة؟ أأنت متعلم؟ أأنت مهذب؟ لقد تعلمت لا لتكون سارقا.لقد وقعت في نفس الشرك الذي وقع فيه غيرك وأنت يا من تمثل الاستقامة في الأرض صرت رئيس البغاة إن الزارع الذي يزرع الظلم ويروي حقله بالعسف والكذب سيجني ما زرعت يداه وبذلك تغمر الضيعة بالشر". حتى الفلاح الفصيح لم تبلغ حكمته الفلاح الرئيس.