23 سبتمبر 2025

تسجيل

صاحب السمو.. خطاب الثوابت والقيم 

23 سبتمبر 2020

لم يكن خطاب حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى في الجلسة الافتتاحية للمناقشة العامة للدورة الخامسة والسبعين للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، أمس خطاباً عادياً، فقد جاء في وقت عصيب يواجه في العالم تحديات غير مسبوقة، انعكست حتى في شكل هذه الدورة التي عقدت لأول مرة عبر تقنية الاتصال المرئي من مقر المنظمة في مدينة نيويورك. جاء خطاب صاحب السمو أمام الأمم المتحدة، وهي تحتفل بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسها، شاملاً واستثنائياً، وبحجم التحديات الهائلة التي تواجهها البشرية، وفي مقدمتها تفشي جائحة (كوفيد - 19)، الأمر الذي جعلها تتصدر أجندة هذا الخطاب المهم. وجاء خطاب صاحب السمو ليعيد تذكير المجتمع الدولي وقادة العالم بالحقيقة التي تغيب عن بال الكثيرين، وهي أننا ننتمي لإنسانية واحدة وأن السبيل الوحيد لمواجهة تحديات الأوبئة والمناخ والبيئة وقضايا الفقر والحرب والسلم، هو التعاون المتعدد الأطراف لتحقيق الأهداف المشتركة للبشرية في الأمن والاستقرار، وهو ما فعلته دولة قطر التي سارعت إلى اتخاذ جميع الإجراءات والتدابير الوقائية لحماية المواطنين والمقيميـن علــى أرضهــا، لكنها لم تغفل كذلك واجبها في التعاون الدولي، حيث قدمت المساعدات لأكثر من (60) دولة وخمس منظمات دولية، فضلاً عن المشاركة الفاعلة ضمن الجهود الدولية في حشد الموارد والطاقات لمواجهة هذا الوباء وتداعياته، ودعم المراكز البحثية في عدة دول للحد من التداعيات السلبية الخطيرة لتلك الجائحة والإسراع في اكتشاف لقاح لهذا الفيروس. لم يكن الخطاب عادياً، بل كان خطاباً يحدد المسارات للسلام والاستقرار في المنطقة وفي العالم.. كان خطاباً للتذكير بميثاق الأمم المتحدة وبالأهداف التي تتطلع إليها البشرية وبالمهام المشتركة التي يتعين على المجتمع الدولي وقادة العالم القيام بها لتحقيق الأمن والسلم الدوليين. الطريق لحل الأزمة أفرد صاحب السمو حيزاً للأزمة الخليجية والحصار الجائر غير المشروع على دولة قطر، وذلك انطلاقاً من المسؤولية الأخلاقية والقانونية أمام الشعوب التي وقع عليها ضرر عظيم جراء تمزيق النسيج الاجتماعي وقطع الأواصر بينها، حيث حدد سمو الأمير الطريق لحل الأزمة قائلا: إنها "بدأت بحصار غير مشروع ويبدأ حلها برفع هذا الحصار"، مؤكداً على أن الحوار غير المشروط القائم على المصالح المشتركة واحترام سيادة الدول السبيل لحل هذه الأزمة، لم ينس صاحب السمو أن يوجه التحية والتقدير البالغ للجهود المخلصة لحضرة صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، أمير دولة الكويت الشقيقة، وكذلك التنويه بمساعي الدول الشقيقة والصديقة لإنهاء هذه الأزمة. هذه الأزمة المتطاولة، لم تثن دولة قطر عن مواصلة مسيرة التقدم والتنمية في كل المجالات، بل ورغم الحصار المستمر منذ أكثر من ثلاث سنوات، عززت قطر مشاركتها الفعالة في العمل الدولي المتعدد الأطراف لإيجاد حلول لأزمات أخرى، وسجلت نجاحات واختراقات كبيرة لصالح تعزيز الأمن والاستقرار في العالم، الأمر الذي جعل منها قوة مؤثرة على الخارطة العالمية.. قوة تعمل من أجل خير البشرية من خلال مساهماتها المشهودة في تحقيق الأمن والسلم. وساطة تاريخية ومع الجهود الكبيرة ومبادرات الوساطة العديدة الناجحة التي قامت بها قطر، خلال سنوات الحصار، انطلاقاً من إيمانها الراسخ بحل المنازعات بالطرق السلمية، حرص صاحب السمو على الإشارة إلى مبادرة واحدة فقط تشكل علامة بارزة في مساهمات قطر في تحقيق الأمن والسلم والدوليين، وهي جهودها الخيرة والمستمرة فيما يتعلق بأفغانستان، إذ كان لدور قطر ووساطتها الخيرة القدح المعلى في توقيع اتفاق السلام التاريخي بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، في الدوحة، في 29 فبراير الماضي، والذي مهد الطريق نحو إحلال السلام في أفغانستان بعد أكثر من 18 عاماً من الحرب، كما أشار صاحب السمو إلى نجاح وساطة الدوحة في عملية تبادل الأسرى بين حكومة أفغانستان وحركة طالبان من خلال المناقشات التي عقدت في الدوحة خلال الشهر الماضي، فضلاً عن نجاح جهودها في عقد مفاوضات السلام الأفغانية - الأفغانية التي بدأت في الثاني عشر من الشهر الحالي، في الدوحة، معرباً عن أمله في أن يعم قريباً السلام والاستقرار ربوع أفغانستان. فلسطين في القلب وكما هو الحال دائماً، كانت قضية فلسطين حاضرة في قلب خطاب صاحب السمو، الذي أفسح لها مساحة واسعة من الخطاب ليعكس للمجتمع الدولي وقادة العالم ما تمثله القضية الفلسطينية بالنسبة لدولة قطر وللأمة العربية والإسلامية باعتبارها قضية العرب المركزية، ومفتاح الاستقرار في المنطقة، وطرح سمو الأمير السؤال الذي يتجنبه الكثيرون عند التطرق للقضية الفلسطينية وهو أن بقاء قضية فلسطين من دون حل عادل، واستمرار إسرائيل بالاستيطان وخلق الوقائع على الأرض دون رادع، تضع أكبر علامة سؤال على مصداقية المجتمع الدولي ومؤسساته. كان سمو الأمير واضحاً وهو يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، وكان شديد الصراحة وهو يتحدث عن وقوف المجتمع الدولي عاجزاً، رغم الإجماع الدولي على عدالة قضية فلسطين، ولا يتخذ أية خطوات فعالة في مواجهة التعنت الإسرائيلي والاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية إلى جانب فرض حصار خانق على قطاع غزة، والتوسع المستمر في سياسة الاستيطان، وفرض سياسة الأمر الواقع، وذلك في انتهاك فاضح لقرارات الشرعية الدولية، وحل الدولتين الذي توافق عليه المجتمع الدولي. لكن الخطاب لا يتوقف عند الإشارة إلى مكمن الداء فقط، بل يحدد الوصفة الناجعة والمسار الصحيح الذي يقود إلى السلام العادل والمنشود، وهو هدف لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التزام إسرائيل التام بمرجعيات وقرارات الشرعية الدولية والتي قبلها العرب وتقوم عليها مبادرة السلام العربية، مشيراً إلى أن أية ترتيبات لا تستند إلى هذه المرجعيات لا تحقق السلام ولو سميت سلاماً. كان خطاباً يؤكد أن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة ليست محلاً للمساومة، وأن الطريق للسلام يتم من خلال مفاوضات ذات مصداقية، بحيث تقوم على القرارات الدولية وليس على القوة، وتتناول جميع قضايا الوضع النهائي، وإنهاء الاحتلال خلال مدة زمنية محددة وإقامة دولة فلسطين المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لجميع الأراضي العربية المحتلة. كان لكل الشعوب الشقيقة في الدول العربية التي تشهد نزاعات وكوارث، مكان في وجدان وفي خطاب صاحب السمو، من سوريا إلى اليمن والسودان وليبيا وحتى لبنان.. يضع سمو الأمير يده على مكان الجرح، ويعكس مواقف قطر الناصعة، سياسياً وإنسانياً، إلى جانب الشعوب وتطلعاتها وحقها في الكرامة والعيش الكريم، ويستنهض المجتمع الدولي لأداء دوره في حفظ السلم والأمن الدوليين وحماية المدنيين. كما تطرق صاحب السمو إلى المساعدات التنموية للدول النامية والدول الأقل نمواً، ودعم البلدان المتضررة من الآثار السلبية لتغير المناخ، كان الإرهاب الذي يمثل أحد أبرز التحديات التي يواجهها العالم لما يمثله من تهديد حقيقي للسلم والأمن الدوليين، أيضاً محل وقفة في الخطاب الذي أبرز أدوار دولة قطر ومشاركتها الفاعلة في الجهود الدولية والإقليمية للتصدي لتلك الظاهرة ومعالجة جذورها ولا سيما من خلال دعم التعليم لملايين الأطفال والشباب والنساء وإيجاد فرص عمل للشباب، فضلاً عن الشراكة الإستراتيجية لدولة قطر مع أجهزة الأمم المتحدة المعنية بمكافحة الإرهاب والتطرف العنيف. خطاب صاحب السمو الاستثنائي هو وثيقة تسطر المواقف الأخلاقية المشرفة لدولة قطر وأدوارها المشهودة التي ستدون بأحرف من نور للأجيال القادمة في كتاب التاريخ، باعتبارها علامة بارزة في مسيرة الدول التي تسعى لما يحقق مصلحة الشعوب وخير الإنسانية.