10 سبتمبر 2025

تسجيل

الـعـيـد ..

23 أغسطس 2018

توقظني أمي لصلاة العيد.. ياه، فقد مرّت الأعوام، وكأنها وميض برق في عرض غيمة مثقلة بالمطر، تلوّح لنا مغادرة للبعيد، توّدعنا بهدوء، وكأننا نحن تلك الغيمة وكأن حياتنا كزخات المطر وكبراعم الزهر، وكالضحكات المنثورة على وجوه الأحبة والأصدقاء، الذين بقوا معنا أو الذين رحلوا عنّا، تاركين لنا ذاكرة كالوشم في صورنا الذهنية. كان ذلك قبل ثلاثين عاماً، صوت أمي في ممرات منزلنا، وهي توقظنا لصلاة العيد، لقد مرت السنوات فعلاً بطريقة سريعة جداً يا أمي، فلم أفكر في يومٍ من الأيام أن تكون لي ذاكرة خاصة بالأدب وما تحمله تلك الذاكرة من حنين للماضي، الحنين لتلك الأيام البسيطة، قبل أن يرحل أبي، وقبل أن أكبر هكذا رغماً عني. إنَّ الأديب َ في هذه الحياة القصيرة، دائم الانشغال في معطياتها وفي تقاطعاتها، ورغم هذا التمدن والتحضر الذي طرأ على مجتمعاتنا العربية، إلا أن للماضي أناقته وروعته، يحس به معظم الناس، لكنه في ذاكرة الأديب، شيئاً مختلفاً، وكأنه النخيل المثمر في رؤاه. وكيف لذلك الأديب أن يستخلص العبر من ذلك الماضي؟، كيف يدوّن خلاصة تجاربه الحلوة والمرّة؟، التي مر بها، والتي مرّت به، كيف يُقنع الناس، أن في داخله أحلام وأوهام ورؤى ً وتضحيات، وأن في داخلة أحبة كانوا معه في كل عيد، يبادلونه التهاني والتبريكات، وأن في داخله عيد يخص شخصاً ما، موجود في أحد زوايا الكون، لكنه غائب عنه، بعيداً عنه، يهيم في روحه كما هي روحه التي تهيم في جسده، إنها الحياة القصيرة، أنه العيد عندما يكون باهتاً، لا لون له ولا طعم. كيف يُخبرهم ذلك الأديب، أن بداخله إنسانا آخر، مختلفاً تماماً عما يرونه أمام أعينهم، وأن ذلك الإنسان يريد أن يعيش حياته بطريقته التي يحبها، الملائمة لغاياته، يريد أن يكتب ثم يكتب ثم يكتب ثم يسيل إبداعاً. هو ليس وحده الذي يُريد، بل إن الكل يُريد ذلك، يُريد أن يعيش بمفاهيمه التي تخصه، ولكنه (أقصد الأديب) هو الوحيد القادر على أن يقول لهم عبر ما يطرحه: بأنه يُريد أن يعيش عيده كما كان في السابق، كما كان يرتشف قهوته بحضرة أعمامه وأخواله، بحضرة أصدقائه، بحضرة أبيه الذي رحل وهو لا يزال في سن المراهقة. فصرخة المتنبي في صدر كل من يمر عليه العيد وهو باهت: عيدٌ بأيّةِ حال عُدتَ يا عيد بمَا مَضى أمْ بأمرٍ فيكَ تجديدُ أمّا الأحبّة فالبَيداءُ دونهم فَليتَ دونكَ بيداً دونها بيدُ فبالرغم من ساعات الفرح التي تمر على الإنسان، إلا أنه أحياناً يتشبث بشيءٍ يملأ كونه، ففكرة الماضي عند الأديب، ما هي إلا شرنقة، كلما حركتها الذكريات، كلما فاحت منها رائحة (الكمبودي المعتق)، وبعد تلك الرائحة التي يستشعرها كل من يتحدث عن الماضي الجميل، لتستحضر في ذهنك كل الوجوه القديمة الجميلة، تلك الوجوه التي قاسمتك وجعك وألمك في ظروفك التي غابت، تلك الوجوه التي فرحت لفرحك وابتهجت لسعادتك، تلك الوجوه التي في كل يوم تنقص، حتى تبقى لوحدك في هذه الحياة، لتبقى معك تلك الإنسانة المحبة الوفية الصادقة، (هي زوجتك)، زوجتك التي عاهدتك ووعدتك أن تبقى معك إلى آخر لحظة في العمر، إلى آخر نفسٍ في الحياة، هي من تشعر بك، تشعر بإحساسك المتعاظمة ناحيتها، فلا تخف أن كانت لديك إنسانة عظيمة كهذه، فستحول كل أيامك أعياد. وسيبقى معك ذلك الصديق، الذي كلما ضاقت عليك الدنيا، اتجهت له، يواسيك وتواسيه، يضاحكك وتضاحكه، يشاطرك همك وتشاطره همه، فهو أخوك الذي لم تلده أمك. لم يكن العيد أبداً مجرد حلويات متنوعة، وأغاني راقصة، بل إنه أعظم من ذلك، ففي ذاكرة الأديب، تتجلى كل صور الحياة الحقيقية، فهو يتذكر كل صباحات أعياده التي مر عليها، فيتذكر الذين رحلوا، قبل أن يتذكر الذين سيقابلهم في أول يوم من أيام عيد الأضحى المبارك، ويتذكر كل مواقفه مع أصدقائه. ففي العيد تبتهج النفس، وتتوق للزيارات العائلية، فالعيد محطة، والأيام قطارات، ويومٍ بعد يوم، يكبر الإنسان فجأة، فيجد نفسه محاطاً بصغاره، بعدما كان هو أحد الصغار الذين يحيطون بوالديهم. صوت أمي يقترب مني استيقظ يا ظافر لا تفوتك صلاة العيد، فأنظر لثوبي المعلق، وغترتي المرتبة وزجاجة عطري التي اشتراها لي أبي من سوق واقف، فألتفت على أخي، وهو لا يزال نائما، فأوقظه كي يرافقني لصلاة العيد، فنخرج للحياة، ولمشاويرها الطويلة.