13 سبتمبر 2025
تسجيلقد يُرهق الحاضر نفسه وهو يعمل بكل جد؛ في سبيل إتمام ما عليه من مهام على خير وجه، وهو ما يكون منه (فقط) كي يُلبي غايته التي تؤرقه كل الوقت، ولكنها تفقد صلاحيتها أمام عزمه، فهو لا يلتفت للألم الذي يلم به بسببها؛ لأن كامل تركيزه على ذاك الصوت الخفي الذي يُحفزه من جهة، ويشجعه على تجاهل كل شيء؛ لتحقيق غايته من جهة أخرى وهي تلك التي تنص على فرض وجوده في هذا الوجود؛ ليبقى الأفضل ويتصدر القائمة متى تعلق الأمر بما يستحق بأن يعلق بالذاكرة ويسطر مجده على صدر التاريخ؛ كي ننشغل به (فقط)، ولكن وعلى الرغم من كل تلك الجهود المُضنية التي يبذلها فإن كل ذاك الكيان يفقد هيبته ويتشتت بالكامل متى تدخل (الماضي) وأشعل الساحة بظهوره، فهو ذاك الذي يحمل الكثير في جعبته، ويكفي أن يُخرج من جيبه أبسط ذكرياته القادرة وفي غضون دقائق على التخلص من الحاضر بكسر رقبة حضوره، ثم قطع تذكرة ذهاب لرحلة جميلة إلى ماضٍ أجمل، نستعيد معه وفيه كل تلك المشاعر التي سكنت القلوب، وظلت محتفظة بجمالها لفترة أطول حسبناها ستنتهي في ذاك الحين، غير أنها لم تلتزم بالخطة، وظلت يقظة وفي حالةِ ترقب لدعوة تُجبرها على العودة من جديد؛ كي نلتقي بها في محطة سيختارها الزمن ولن نتمكن من رفض تلك الدعوة، التي ننسى معها الحاضر بكل ما فيه من التزامات تلاحقنا، وواجبات ترافقنا رغماً عنا، فنستسلم لها في نهاية المطاف، ونُقبل عليها بعد أن نقبل بتلك الحقيقة، وهي أن الماضي وعلى الدوام يظل محتفظاً بسيادته، والحاضر يفقد سلطته وسطوته متى كان ذلك، والحق أننا كبشر نميل إلى تلبية تلك الدعوة، التي تأتي عادة والضغوطات تبذل كل ما بوسعها؛ كي تُخرج منا أفضل ما لدينا، فنبحث عن فسحة نفر معها إلى مكان آخر ينبذ النكد ويرفضه، ويفرض الكثير من الأشياء الرائعة، التي تعجز الكلمات عن وصفها، وكل ما نعرفه عنها أنها تُسعدنا، (نعم) تُسعدنا، وإن لم تكن لتفعل ذلك فلاشك أننا لن نقبل بها أبداً. كم من لحظة أو دقيقة أنقذتنا من مزاجية الظروف القاسية بفضل تلك الذكريات اللطيفة التي طلت منها وجذبتنا إليها عن طريق ورقة صغيرة، بطاقة، مقطع صوتي، أو أي غرض لمسناه فلامس القلب وداعبه؟ لاشك أن تلك الدقائق كثيرة (نعم) قد تكون منفصلة من حيث التوقيت الذي يسمح لها بذلك، ولكنها تظل متصلة ببعضها البعض خاصة حين يكون الحديث عن الأثر الذي تبثه في النفوس، (النفوس) المُتعبة، والمُرهقة بفضل الظروف التي تحيط بها وتُجبرها على التأقلم معها، أو تَقَبُل تعنيفها كل الوقت، فيكون الوضع أشبه بالكارثي، الذي لا يُعقل أن يتقبله أي عقل؟ إن الموافقة على تلبية تلك الدعوة للعودة إلى الماضي ليست مضيعة للوقت، ولا تُعد استخفافاً به، أو تقليلاً من شأنه، ولكنها حاجة لابد وأن نقوم بتلبيتها، فالتركيز على الحاضر والتفكير به ومن أجله كل الوقت يُرهق الروح ويُعذبها، فتموت بعد أن تغتالها التعاسة، التي وبمجرد أن تنتهي من (هذا) فإنها ستخرج؛ بحثاً عن (ذاك)، فهل هذا الذي نريده فعلاً؟ من الطبيعي أن نميل إلى نبذ التفكير بالماضي، أو شغل أنفسنا به، فهو ما اعتدت على التطرق إليه من قبل وفي مناسبات مختلفة أجبرتني على فعل ذلك لعدة أسباب حينها، ولربما يتوه المتلقي (الآن) بين ما تطرقت إليه اليوم وما قد تطرقت إليه قبل ذلك؛ لأن الحديث هنا وهناك عن الماضي، الذي لم أكن يوماً لأنبذ فكرة العودة إليه؛ لتفقد ذكرياته الجميلة، وكل ما فعلته هو التأكيد على رفضي لفكرة التشبث بالذكريات الحزينة التي تستنزف الطاقات وتجر الأقدام نحو (الندم)، الذي لا نأخذ منه سواه الألم؛ لنخرج وفي نهاية المطاف بحقيقة لابد منها وهي أن كل ما سبق له وأن أزعجك في الماضي هو كل ما لا يستحق منك التفكير به، أو البكاء عليه كالأطفال، في حين أن كل ما يحمل بين طياته فرحة سبق لك وأن عشتها يستحق منك التفرغ له، والانصات إليه؛ كي يبوح لك بكل ما في قلبه فينتعش قلبك من جديد، ولا أجمل من أن تعود من تلك اللحظات وأنت أكثر إقبالاً على الحياة، وأكثر رغبة؛ لإعطاء المزيد. بطاقة من الزمن الجميل كنت قد حَضَرتُ نفسي؛ للكتابة في شأن آخر لهذا اليوم، ولكن بطاقة صغيرة غيرت كل شيء -أهدتني إياها صديقة جمعتني بها ظروف الحياة، وتقاسمت معها هموم الدراسة، وقطعنا معاً شوطاً طويلاً قبل أن نطوي صفحة العمل والاجتهاد وندخل على صفحة التخرج فالخروج من ذاك العالم إلى عالمنا هذا- بطاقة لم أتوقع أن الزمن سيحتفظ بها لي، وكل ما حدث أنه قد فعل ذلك، فوجدتها بين صفحات (كتاب قديم)، أشعل تصفحه ذكريات الماضي فأسعدني بكل ما جاء فيه وفي تلك البطاقة من كلمات مُحفزة، مُشجعة، مُضحكة، ومُلَخِصةً لكل ما عشناه في ذاك الزمن الذي أعتدنا فيه على أن نكون أبسط بكثير مما نحن عليه الآن، وتحديداً في هذه اللحظة التي استحقت ظهور تلك البطاقة؛ كي نعيش ما كان من الأمس في هذا اليوم. وأخيراً لاشك أن لحديثنا بقية ستكون لنا بإذن الله تعالى؛ لذا وحتى تكون كونوا بخير.