13 سبتمبر 2025
تسجيلتهمس الأم القبرصية وهي تشاهد ابنها السجين على شاشة التلفزيون:" إنني أشاهده ولكنّي لا ألمسه"، في الفيلم الوثائقي الذي شاهدته منذ أكثر من عشر سنوات عن الحرب التركية القبرصية وعقابيلها، ظلت هذه العبارة تشدّني، وتذبحني، كنص شعري نابت في بريّة المعاناة. ربّما أثّر توقيت عرض الفيلم على شابّ غرّ في مدرسة الغربة، فكلّ ما يحدث أمامك يحيلك على الغائب، كلّ وجه أمامك هو نسخةٌ عن وجهٍ ما هناك، كلّ اسم تسمعه هو اسمٌ لشخص ما هناك، كلّ جدار وكلّ شارع وكلّ قبر هو قبر مالك، كان الحنين قاتلاً وبسيطاً، ومرتبكاً أحياناً، كطفلٍ في يومه الدراسيّ الأوّل، يملأ صراخه الفظّ النصوص والحكايات، وكان بريئاً أيضاً يسيل على أغنية، ومن هبوب نسمة. وأسأل بعد سنين؛ لماذا تغيّر طعم الحزن؟ لماذا ذبل الحنين؟ فها أنا الآن على بعد ثلاث سنوات، لم أتذوق خبز أمّي ولا ضحكات أصدقائي، لم أدغدغ وجعاً في صدر أخي، لم أنتبه إلى الساعة وهي تدقّ.. تدقّ، فقد أنسانا الوجع السوري الحنين الذي رتبناه بهدوء، على رأي صديق وجد في معادلة (10+2) امتثالاً مقنعاً للحنين، إذ يداوم عشرة شهور ويسافر في شهري العطلة، متفرّغاً للمقهى الذي يجد فيه أصدقاءه الذين قاسموه المكان ذاته فبل اغترابه. ولكنّنا الآن جميعاً نشاهد وطننا ولا نلمسه، نشاهد الحرائق والحجارة والجثث، نتعرّف الأماكن، وقد نتعرّف الأشخاص الذين فرّقت بينهم الثورة والحرب، هذا قاسمته طفولته، وذاك كان زميلاً، وذلك جمعتك به أمسية أدبية، منهم من ترك البلاد لاجئاً أو نازحاً، ومنهم من بقي هناك يتلمّس درب النجاة والخلاص، ومنهم من غادر الحياة شهيداً أو متوفّى. وحين تتبعثر الحجارة التي كانت خلفية الفلم الذي كنت بطله، فإلى أين يلجأ الحنين، فقد كان لي قاعة درس في جامعة حلب، ومهجع عسكري في حمص، وكرسيّ مصحح الثانوية العامة في اللاذقية، كان لي كل شوارع دمشق، كان لي بيت مهجور في ريف الرقة، وريف حلب، وكان لي مقعد مدرسي في الحسكة، وآخر قبله في القامشلي، كان لي سرير ضيف في حماة، وآخر في درعا، كيف أبعثر حنيني كلّ هذه البلاد المهدّمة لأصطاد ذكرياتٍ نائمة، ستقولون الذكريات نائمة في الحروب، ولكنها أيضاً فتنة، وعندما تنام الفتنة تأتي. بيني وبين ذكرياتي مائة ألف شهيد، بيني وبينها حرائق لا تطفئها كلّ أمطار العالم، والحنين الذي خبأته لوجه أمي ودالية العنب وجدران بيتنا القديم.. لا يكفي لبناء عش في قصيدة، ولا لتحليق علامات الترقيم فوق السطر الأول من أي رسالة، لم يعدّ ثمة رسائل.