14 سبتمبر 2025

تسجيل

رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين

23 مارس 2016

هي الدنيا بكل ما فيها، دار إلتواء لا دار استواء، منزل ترح لا منزل فرح، من عرفها حقا؛ لم يسعده رخاؤها وإن طال، ولا يحزنه شقاؤها وإن عظم؛ لأنه عالم بالحال جاهل بالمآل، ما يدري هل هذا العطاء: منح أم منع؟ وهل البلاء: نقم أم نعم؟ فقد قالوا: ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وإذا كشف لك الحكمة وراء المنع عاد المنع عين العطاء، وحينما ينكشف سر القضاء والقدر يذوب المؤمن محبة لله لِما ساقه له من شدائد.إن البلاء مقصود ومراد لحكم كثيرة أدناها أن النعيم لا يكمل تذوقه إلا بضده، فلا يعرف جمال العافية من لم يمرض، ولا يستشعر كمال نعيم الغنى من لم يفتقر، يقول ابن القيم: "من كمال إحسان الرب تعالى، أن يذيق عبده مرارة الكسر قبل حلاوة الجبر، ويعرفه قدر نعمته عليه بأن يبتليه بضدها".الحياة الرتيبة الناعمة الملمس ليست مصنع الأولياء، ولا مرتقى الأصفياء. إذن لابد للارتقاء من كدر وفرح، وسرور وهم، واجتماع وفرقة، ويسر وعسر، وسقم وعافية؛ حتى يشتد الساعد فيقوى الرجاء ويحسن الاحتماء، هكذا علمتنا تضاريس الحياة: فلولا اعوجاج القوس ما صحت منه رمية ولا سقطت من سهمه رمية.ومن هنا يفهم كلام الجنيد البغدادي: البلاء سراج العارفين، ويقظة المريدين، وصلاح المؤمنين، وهلاك الغافلين، ولا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يأتيه البلاء ويرضى ويصبر.الدنيا أهون من أن تكون عطاء لرجل صالح يقول الغزالي رحمه الله: "إذا رأيت الله يحبس عنك الدنيا ويكثر عليك الشدائد والبلوى، فاعلم أنك عزيز عنده، وأنك عنده بمكان، وأنه يسلك بك طريق أوليائه وأصفيائه، وأنه يراك، أما تسمع قوله تعالى: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) لله در كل مبتلى عرف مكانته عند مولاه فقابل عظيم إحسانه عليه بالشكر، وعرف جميل قدر البلاء بالصبر، واتخذ من قول أيوب لربه (انِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) منهجا ونبراسا، فما زاد في دعائه عن قوله (مسني الضر) تأدبا مع الله فجاءته البشارة فوق ما كان يرجو: (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر، وآتيناه أهله ومثلهم معهم) رفع عنه الضر في بدنه فإذا هو معافى صحيح، ورفع عنه الضر في أهله فعوضه عمن فقد منهم. "عَجَبًا لأَمْرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ ليسَ ذلكَ لأَحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ".