11 سبتمبر 2025

تسجيل

من بريكست إلى ترامب.. عقد الشعبوية الغربية القادم

23 فبراير 2021

"أمريكا أولاً"، "لن تحكمنا بروكسل"، "لن تتحول فرنسا إلى إمارة إسلامية"، "هولندا لنا" وغيرها من المفردات والشعارات الكثيرة رفعها وروجها أصحابها من التيارات اليمينية والشعبوية المتطرفة في خضم ما عصف بأوروبا من أزمات بدءا من الأزمة المالية العالمية 2008، ورويدا رويدا تخللت تلك المفردات أذهان الملايين من الغربيين حتى أوصلت بعضا من أصحابها في نهاية المطاف إلى الحكم بشكل منفرد، أو المشاركة فيه، أو التأثير على مجمل السياسات الداخلية والخارجية الغربية بشكل أو بآخر. الأحزاب والتيارات اليمينية والشعبوية المتطرفة خفت نجمها على نحو كبير بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مع مطلع التسعينيات بدأ نجمها يسطع عبر منحى بطيء للغاية، وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية أخذ نجمها في السطوع السريع لتشكل واقعا جديدا تزاحم وتنافس به التيارات السياسية الغربية اليمينية واليسارية الغربية العريقة بأجنحتها المعتدلة المتنوعة. أفرز هذا الواقع الجديد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تصاعد شعبية حزب البديل من أجل ألمانيا وتمكنه من انتزاع مقاعد من حزب ميركل في بعض الولايات الألمانية، حصد حركة خمس نجوم في إيطاليا المركز الثاني في الانتخابات البرلمانية السابقة، نفس الحال في هولندا 2017، وصول الأحزاب الشعبوية إلى الحكم في المجر، التصاعد الكبير لشعبية حركة اليمين في البرتغال ومن المتوقع انفرادهم بتشكيل الحكومة القادمة، التنامي الكبير لشعبية "ماري لوبان" في فرنسا ومن المرجح أيضا وصولها إلى رئاسة فرنسا في الانتخابات الرئاسية القادمة. ما حصدته التيارات الشعبوية من نتائج متقدمة للغاية، والواقع الغربي المتأثر بوجودها كالبريكست كأوضح مثال، الذي قاده تلك التيارات بقوة، ينبئ أن العقد القادم في الغرب سيكتسي بالشعبوية على نحو شبه تام. أسباب صعود الشعبوية في أوروبا متعددة، أهمها: التوحش المفزع للرأسمالية الغربية الذي نجم عنه ارتفاع مطرد في نسب الفقر والبطالة، تفاقم أعداد اللاجئين والمهاجرين، لاسيما من العرب والمسلمين، والذي بدوره فجر هواجس بشأن الهوية. فشل النخب السياسية التقليدية في معالجة الأزمة المالية وأزمة المهاجرين، بالإضافة إلى انقسامها وفسادها وخطابها السياسي التقليدي، تنامي "السوشيال ميديا" والتي من خلالها أصبح بمقدور التيارات اليمينية الترويج لأفكارها وشعاراتها بحرية وسهولة. في خضم جملة هذه الأسباب، علاوة على تمكن التيارات اليمينية من استغلالها ببراعة، لاسيما اللعب على وتر الهوية الأوروبية وضياع الفرص الاقتصادية بسبب أزمة اللاجئين وحرية التجارة والاحتكارات لصالح النخب الاقتصادية؛ بات اليمين المتطرف يكتسب أرضية شعبية يوما بعد يوم حتى أصبح قاب قوسين أو أدنى من التفرد بالحكم في أوروبا جميعها. جائحة كورونا بدورها أكسبت تلك التيارات المزيد من الشعبية بعد الفشل الرهيب للنخب الأوروبية الحاكمة والاتحاد الأوروبي على السواء من التصدي لها. وصل ترامب إلى البيت الأبيض عبر شعار "أمريكا أولاً" وأجندة شعبوية سياسية واضحة تكن العداء للأجانب والمهاجرين ودور أمريكا الواسع في العالم، جملة الأسباب التي أوصلت ترامب الشعبوي إلى البيت الأبيض تقريبا نفسها في أوروبا، فالقاعدة الشعبية العريضة لترامب أغلبها من البيض الإنجيليين الذين تفاقمت لديهم هواجس بشأن الهوية، ويعاني الكثير منهم لاسيما في الولايات التي يغلب عليها الطابع الريفي من وطأة الرأسمالية المتوحشة. خسر ترامب الرئاسة الأمريكية، لكن ترك وراءه تيارا شعبويا واسعا البعض يطلق عليه "الترامبية"، لم ينشئه في واقع الأمر لكن عمقه عبر سياساته خلال أربع سنوات. مظاهر هذه الترامبية بدأت مبكرا جدا في التشكيك الواسع لأنصاره في نتيجة الانتخابات الأمريكية، مرورا باقتحام مبنى الكونجرس وصولا لتنامي الأصوات الشعبية والحزبية المعارضة لمحاكمته للمرة الثانية في الكونجرس. العقد القادم في الغرب سيكتسي بالشعبوية بما لا يدع مجالا للشك، لا سيما في خضم التداعيات الاقتصادية والسياسية التي ستتركها جائحة كورونا. على الصعيد الأوروبي، ستغير تلك الشعبوية من المشهد الداخلي والخارجي لأوروبا على نحو شبه جذري، فإذا كانت الشعبوية اليد الطولى في البريكست، فليس من المستغرب أن نشهد إيطاكست، ويوناكست، ربما تفككك الاتحاد الأوروبي برمته كما يتوقع نفر هائل من الخبراء، الشعبوية أيضا ستشكل ضربة قاتلة للديمقراطية الليبرالية الراسخة في أوروبا عبر سياستها المعادية للأجانب والمهاجرين والأقليات ونظام السوق الحر، لاسيما أيضا وأن النخبة الأوروبية المعتدلة ستنحو جزئيا إلى سياسات شعبوية أو تتحالف معهم كما الحال في إيطاليا لكسب المزيد من الأرضية الشعبية. أما على صعيد السياسة الخارجية ربما تقوم تلك التيارات بعزل دولها حتى عن جيرانها الأوروبيين، بل وفتح جراح قديمة تعود بأوروبا إلى أجواء مشحونة أشبه بعشرينيات القرن العشرين، وإن كانت بدأت بالفعل بسبب جائحة كورونا والتعاطي الأناني للدول الأوروبية الكبرى معها. الوضع في أمريكا ربما يكون أصعب، الترامبية حقا أحد مظاهر انقسام الأمة الأمريكية الحاد. الحديث المتواتر الآن عن انقسامات حادة داخل الحزب الجمهوري، وعزم ترامب تأسيس حزب قومي جديد مستغلاً الكتلة التصويتية الرهيبة التي حصدها رغم خسارته. رغم سعي بايدن إلى نقض عهد ترامب برمته، وهذا ما وضح من أوامره التنفيذية التي تخطت الأربعين خلال شهر محاولاً من خلال بعضها لملمة جراح الانقسام، إلا أن معاجلة هذا الانقسام أو بالأحرى استقطاب أنصار الترامبية يحتاج إلى معالجة جملة الأسباب التي ساهمت في تنامي الشعبوية بهذا الشكل المذهل، وهو أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، لاسيما مع تحدي التنامي المطرد للمهاجرين والأقليات التي ساهمت على نحو كبير في وصول بايدن ذاته إلى الرئاسة، ناهيك عن صعوبة إيقاف الرأسمالية المتوحشة للشركات الأمريكية، والفساد المستشري بين النخب السياسية الأمريكية، واحتكار الإعلام من قبل اليمين. الشعبوية في الغرب في تنامٍ مطرد خلال العقد القادم ستحول بدورها المشهد السياسي الغربي لاسيما ديمقراطيته وهيكله الليبرالي على نحو شبه جذري.