11 سبتمبر 2025

تسجيل

البارود بين المأساة والملهاة

23 فبراير 2016

تنفيذ أي مشروع يبحث عن التفوق الذي يفوق العادي والمألوف يحتاج لقاعدة أساسية تتبناها أرض صلبة يُستند إليها؛ ليتم التعمير وإن جاء ذلك فيما بعد على عدة مراحل لا حق لها بأن تكون ما لم تكن مرحلة توفير تلك القاعدة التي أشرت إليها آنفاً، التي ومن الضروري أن تتوافر في أي مجال يبحث عن الامتداد والتشعب السليم وبحسب ما تقتضيه الأصول، وهو ما يتوافق وبشدة مع عملنا الصحفي، الذي يدركها تلك القاعدة ويعرفها بل ويُعرفها على أنها (المصداقية) التي وإن لم يُقدر لها أن تكون فلن تكون القيمة لكل ما يُقدم وسيُقدم، بل ولن يُكتب له أن يكون من الأصل، مما يعني أن كل ما يتطلبه عملي ويحتاج إليه هو الاستناد إلى تلك المصداقية؛ كي أتمكن من نقل الصورة كما هي دون أن أضيف إليها من النكهات ما يمكن أن يُغير المذاق الأصلي فيحوله (من وإلى)، والله على ما أقول شهيد.يذكر كل مُتابع لهذا العمود ما قد كان منه في آخر لقاء جمعني بكم، والحديث عن مقالي الذي كان بعنوان (صوت خلف كواليس المسرح يقول: هذا ما يفعله الباكر) وهو ما قد جاء؛ متضامناً مع حركة (الإبداع) الذي يفرض نفسه في أي مكان يكون فيه، ونظراً إلى سيرة الفنان فهد الباكر ومسيرته الحافلة بإنجازات -شَهدت وبشكلٍ شخصي على الكثير منها- فلقد جئت بما قد جئت به حينها وأنا أدرك تماماً ما يفعله الباكر وما يسعى إليه، ومن يعرفني خير المعرفة سيدرك أني أساند الإبداع أياً كان لونه؛ مُتكئة في ذلك على حقيقة أنه سيُزيح عن الطريق ما يمكنه تلويث ذائقة المتلقي، الذي إما وأن يصبح مرتعاً لكل وأي شيء يُقدم له فيستقبله دون نقاش حتى يدمر مستقبله بنفسه (هذا إن قُدر له أن يعيش؛ كي يدركه)، أو أن يتمسك بحقه من البحث عن الأفضل والأفضل فقط؛ كي يعيش تفاصيله ويأخذ منه ما يستحق أن يؤخذ؛ لذا وبالنظر إلى هذا الخيار الأخير فلاشك أن من يملك من العقل شيئاً سَيَنكَبُ عليه دون تفكير، وسيبحث عن الأعمال المسرحية القوية؛ كي ينتفع بها، والمنفعة هنا ليست كتلك التي نتلقاها من خلف مقاعد الدراسة، بل تلك التي تُقبل علينا وتجر معها المتعة والفرجة وكل ما يلحق بالركب ويضمن لنا رحلة درامية موفقة، وهو تماماً ما قد وجدته في أعمال (الباكر) الذي قد تحوم من حوله علامة استفهام سيحملها كل من يلتهمه الفضول؛ ليسأل: ما الذي يملكه الباكر؛ كي يصبح نجماً يسطع في سماء الإبداع؟ ويكفي أن أجيب هذا الأخير بالتالي وهو: أن الباكر -وكل من هو على شاكلته أي يحمل ذات المواصفات التي ترحب بالإبداع فقط وتُصر عليه- يعيش؛ كي يُبدع، ويبدع؛ كي يعيش، ولا حياة له دونه الإبداع، الأمر الذي يجعله يبدو مختلفاً ومن عالم آخر لا يمت للعالم بصلة؛ لذا كثيراً ما يصطدم ويرتطم بعقبات تقف له بالمرصاد، ولكن سرعان ما يتجاوزها؛ ليلحق بركب العطاء دون أن يتأخر، فهو دائم السؤال عن الأفضل، ولا يكفيه مجد اليوم؛ كي يمضي به دون أن يفكر بالغد؛ لذا كثيراً ما نجده يحرص على معرفة إيجابيات وسلبيات ما قد تقدم به من عمل كل الوقت، والدليل هو ما قد كان منه بعد آخر عمل تقدم به للمسرح القطري، والحديث عن عرض (البارود)، الذي راقصت مشاهده خشبة مسرح قطر الوطني يوم الجمعة، وجمع من حوله كوكبة من الفنانين والمعنيين بالمسرح، وعُشاقه ممن جابهوا ظروفهم؛ كي يحضروا هذا العرض، فكان منهم من قد جاء مسانداً له، ومنهم من قد جاء؛ كي يستند إليه، أو بالأحرى بما جاء فيه، فالنص للكاتب الإماراتي حميد فارس، الذي أثقله وضع العالم لن أقول العربي، ولكن الإنساني، الذي تجرد بعض من فيه من إنسانيته فأفرغ ما في القلب؛ ليندمج مع الآخرين بقالب لا يكفي؛ كي يُعبر عن هويته، التي تعاني من جوع شديد يجبرها على البحث عن المزيد وإن لم تكن تملك الحق فيه؛ لتُقبل عليه بكل ما تملكه من قوة؛ كي تفوز به حتى وإن خسر الآخرون حقوقهم، الأمر الذي سيخلق صراعا شرساً، كذاك الذي شهدنا عليه وشاهدناه كعرض مُصغر لحقيقة ما يحدث في الواقع ولكن على خشبة المسرح، وتمكن فريق العمل من تقديمه ضمن لوحة فنية متفقة النسق، كانت تهدف إلى طرح قضية جادة وإن تخللتها بعض المشاهد الكوميدية، التي وُجدت؛ كي تُضيف شيئاً من (الملهاة) على الجمهور المتلقي، الذي أدرك بعضه ضرورة التركيز على القضية الأساسية التي تقف خلف تلك المشاهد، في حين فر البعض الآخر بعيداً عن هدف هذا العمل، وهو ما قد شتت (البارود) بين المأساة والملهاة، ورغبت بتوضيحه للباكر حين سألني عن العرض بعد العرض، ولكن من خلال هذا المقال، المأساة الحقيقية حين يُعرض أي عمل جدي يناقش قضية خطيرة ونجد من لا يأبه بها ولا يبالي؛ لأن كل ما يهمه هو البحث عما يُبهج روحه ويُضحك قلبه، أما الملهاة و(آه) من الملهاة الحقيقية، فهي أن يدعو المسرح جمهوره للحضور دون أن يكلف عليه تكبد عناء أي شيء سواه الحضور، ولكن يأبى الأخير التجاوب؛ لأنه لا يدرك حقيقة ما يقدمه المسرح، ويتطلب منا توجيهه نحو تلك الحقيقة تقديم العديد من الفصول، التي لن تلغي وجوده بسهولة لوجوده بيننا، ولوجود من لا يصدق بوجوده ولابد وأن نقول له: Open your eyes، وحتى تفعل يكفي أن أختم بالتالي وهو: أن عرض (البارود) قد كان موفقاً وإلى حد (ما)؛ لتلاحم جميع الجهود، التي انصبت في قالب واحد كان هدفه الأساسي هو ترجمة ما يحدث في الواقع للواقع، ويستحق منا الشكر، على أمل أن ندرك المزيد من الإبداع في المرات القادمة إن شاء الله، وحتى يكون لنا ذلك فليوفق الله الجميع (اللهم آمين).