27 أكتوبر 2025
تسجيلفي علم النفس السلوكي، عندما يتعرض الإنسان لصدمة شديدة فإنه يفقد توازنه مؤقتاً، ثم يستجيب لها بطريقتين: الأولى، هي الانطواء على الذات، والعودة إلى الماضي محاولاً استعادته. والثانية، أن يتقبَّل الصدمة، ويعترف بها، ليبدأ محاولاته للتغلب عليها. وهذا المبدأ هو الذي اعتمد عليه المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي في تفسيره لنشوء الحضارات، وتحليل أسباب نهوضها وانهيارها، وصاغه في نظريته الشهيرة المعروفة بالتحدي والاستجابة. ونحن، عرباً ومسلمين، نتعرض، اليوم، لصدمات عظيمة يعتقد بعضنا أنها أنهت حضارتنا، وبددت آمالنا في أن يكون لها وجود مؤثرٌ وفاعلٌ في مسيرة الإنسانية. ولكنهم مخطئون في اعتقادهم، فالواقع يخبرنا بأننا نستجيب لتلك الصدمات بصور كثيرة تجعلنا أعظم أملاً في نهضة عظيمة تُسهم في صياغة جديدة للتاريخ الإنساني. التحدي الأعظم، هو محاولة البعض لإحياء مسألة خَلْقِ القرآنِ الكريم التي امتُحِنَ بها المسلمون لمدة خمسة عشر عاماً قبل حوالي ألف ومائتي سنة، والتي تقول إنه مخلوق، مما يعني أنه ينطبق عليه ما ينطبق على المخلوقات من أطوار الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة ثم الموت، ويمكن بالتالي أن يقبل أو يرفض الناس جزئيات منه بحجة عدم صلاحها للحياة. وبالطبع، فإن هذه المحاولة تتم بطريقة غير معلنة، فينادي البعض بأن المسجد الأقصى ليس في القدس، وأن موالاة المسلمين لبعضهم كأمة لم تعد أمراً منطقياً. وهنا، نلاحظ أن استجابة الأغلبية العظمى من المسلمين كانت في زيادة تمسُّكهم بالقرآن الكريم على أنه كلام الله تعالى الذي لا يغيره تبدُّل الأحوال بمرور الأزمنة، وأن الإسراء بالرسول، ﷺ، كان من مكة المكرمة إلى القدس، والعروج به إلى السموات العُلى كان من المسجد الأقصى بالقدس والذي أمَّ فيه الأنبياء والرسل، عليهم صلوات الله وسلامه. وهذه الاستجابة تجعلنا ندرك أن الواقع المفروض علينا هو واقعٌ مؤقتٌ لا يمكن له الدوام. التحدي الثاني، هو العنصرية؛ وهي ليست عنصرية العِرْقِ أو اللون، وإنما العنصرية المناطقية الفارغة من المضمون والدلالات. فأصبح البعض يتعنصرون لدولهم بطريقة فجة، ويتحدثون عن أن التزامهم بالأمة وقضاياها هو الذي يُعطِّل نهضة بلادهم، مما يجعلهم أكثر قبولاً بالتحالف ضد المسلمين الآخرين مع قوى لا شرعيةَ أخلاقيةً وتاريخيةً وإنسانيةً لها. وكانت الاستجابة بتأكيد المسلمين على الرابطة الحضارية العظمى بينهم؛ أي الإسلام، وبدأت الأفكار الجديدة تنتشر بالمناداة بالنص القرآني: {إِنْمَا هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ}. والرائع، في ذلك، أن النداء به اتخذ الطابع الإنساني المتحضِّر الذي يرى في الإنسان، مسلماً وغير مسلم، قيمةً عظمى في وطنه، مستلهما أول دستور مدني معروف وهو وثيقة المدينة المنورة بين المسلمين وغير المسلمين في عهد النبوة. التحدي الثالث، هو تحقير الشخصية؛ حيث تعلو أصوات هنا وهناك بأن الشخصية الإسلامية غير مبدعة، ولا تملك قدرات على الإنجاز والابتكار، ثم يتثاقف أصحاب تلك الأصوات بالقول إن الحضارة الإسلامية لم تُقدم شيئاً طوال الألف وأربعمائة سنة الماضية، ولم ينتج عنها إلا العنف. وكانت استجابة المسلمين عظيمةً في روعتها، لأنهم لم يَنْجَرُّوا إلى الزوايا المُظلمة التي يريد هؤلاء المتثاقفون جَرَّهُم إليها، وإنما ردوا ردوداً علميةً لا يمكن إنكارها عن دور المسلمين العظيم في تقدُّم العلوم، وتأثيراتهم الهائلة في نشوء الفكر السياسي وتطوُّرِهِ، وأدوارهم الكبيرة في نهضة وتقدُّم مجتمعاتهم الغربية والشرقية التي برزوا فيها بنبوغهم. أما المقولات بأن بروز المسلمين في تلك المجتمعات كان بسبب ما تُقدمه لهم من حريات، فكان الرد عليها بأن ذلك يثبت أن الاستبداد والإفقار والتهميش في بعض الدول الإسلامية هي أسباب التخلف، وأن الإسلام كهوية لا ينمو وينهض إلا في أجواء الحرية. الأمر الذي ينبغي علينا الاهتمام بالتوعية به هو أن التعليم هو أهم ركائز النهضة، والإنسان المسلم والعربي المتعلم هو الذي يبني بلاده، ويصنع تاريخ أمته، ويضمن تقدُّمها. ولذلك، نسعد حين نرى طلابنا وطالباتنا يُقبلون على التعليم في كل مراحله، وتتعاظم سعادتنا عندما نراهم يُجدِّدون الفكر، ويُغيِّرون، بالتدريج، أنماط السلوكيات العامة بحيث تنتظم في خدمة الهوية الإسلامية الجامعة، وتتبنى قضايا أمتنا العادلة. كلمة أخيرة: الزمن اللازم للنهضة لا يُقاس بالسنوات وإنما بالإنجازات المتراكمة، وأمتنا عظيمةٌ وحيةٌ وستنهض بإذن الله. [email protected]