12 سبتمبر 2025
تسجيل• السعودية حولت قنصليتها إلى مركز اعتقال وتعذيب وتقطيع! • خطر خاشقجي على سياسة السعودية الجديدة يتمحور حول قدرته على مخاطبة الغرب بلغته التي يُجيدها • عمود خاشقجي في الواشنطن بوست جعل منه معارضاً إصلاحياً بمواقف شجاعة وجريئة تدعو للإصلاح • غرقت السعودية في إخراج سيئ للأزمة ونجحت تركيا في إدارتها انتهت المرحلة الأولى لاختبار ثقة الدول بالمعاهدات الدبلوماسية والإنسانية، بعد اعتراف السعودية بأن الأستاذ جمال خاشقجي قتل داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، وتبدأ المرحلة الثانية بعد إظهار الجثة بتبعيات الموقف الدولي وتزاحم المواقف الأخلاقية والقانونية والسياسية للرد على هذه الجريمة النكراء والإرهاب الممنهج والمفضوح. كانت بداية هذه القصة في 2 أكتوبر من هذا الشهر حين دخل الإعلامي السعودي جمال خاشقجي قنصلية السعودية في إسطنبول، لاستكمال الأوراق القانونية لزواجه، ومن حينها لم يعد ولم يتواصل مع خطيبته تاركا السلطات الأمنية التركية مستنفرة في البحث عنه قبل أن تبدأ أصابع الاتهام بالتوجه نحو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وتحميله مسؤولية الاختفاء المفاجئ لخاشقجي، أحد المعارضين المعتدلين لسياسات السعودية الجديدة خاصة بعد اعتلاء الأمير محمد بن سلمان وتعيينه وليا للعهد، وبالرغم من وجود قرائن واضحة على دور سعودي في اختفائه إلا أن المحللين استبعدوا بادئ الأمر استخدام القنصلية السعودية التي هي بالأساس لتمثيل السعودية سياسيًا في تركيا على نحو أمني مريب يخالف المعاهدات الدولية التي تحصر دور القنصليات في التمثيل السياسي بدلا من تحول وظيفتها لمركز اعتقال وتعذيب (وتقطيع!!) لمعارضي المملكة، بحسب ما كشفته تسريبات أمنية تركية مطلعة بعد عدة أيام. لقد مثَّل اختفاء خاشقجي خطرا على حقيقة مشروع الأمير محمد بن سلمان الإصلاحي، حيث كان يكتب للغرب وبلغتهم، وخرج من بين أكوام الصحافة السعودية الروتينية وحلّق في سماء الواشنطن بوست وحلَّ ضيفاً على قنوات مثل CNN بعيداً عن الخطوط الحمراء المرسومة، وقد مثل كتابه «احتلال السوق السعودي» تدخلات تعديلية واضحة في مشروع الإصلاح ورؤية السعودية 2030، وكشف فيه ضعفاً حقيقيا ليس في التخطيط والطموح فقط بل في تقييم الواقع الجديد أيضاً. بالعودة للقصة، بدأت مسيرة الأستاذ جمال خاشقجي حين عمل مراسلًا لصحيفة «سعودي جازيت» عام 1976، قبل أن ينتقل بعدها للعمل بعدة صحف أخرى مغطيا أحداث أفغانستان والجزائر والكويت والسودان وصولًا إلى قضايا الشرق الأوسط في عقد التسعينات، ونتيجة للنجاحات التي كلل بها فقد عُين في عدة مناصب وصولا في عام 2003 رئيسا لتحرير صحيفة الوطن اليومية، الصحيفة الرسمية الأولى في السعودية، ثم يتحول لاحقًا لمستشار إعلامي للأمير تركي الفيصل، ويصبح من أهم إعلاميي المملكة وأمين أسرار الديوان الملكي، لتتضح بذلك قصة صعوده الإعلامي محليًا من البداية وحتى النهاية. في وقت لاحق، وبعد تسلم الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد في منتصف العام الماضي (2017)، انتقل الأستاذ جمال خاشقجي إلى الولايات المتحدة باحثًا عن منصة تمكنه من التعبير عن آرائه خارج سلطة المملكة، بعد تلقيه لهجة تهديدية ملغومة إثر قيامه بانتقاد سياسة ولي العهد الجديد المزدوجة، حسب وصفه. بحسب خاشقجي، فإن سياسة الأمير محمد بن سلمان تعتمد على الإصلاحات في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية في الوقت نفسه الذي تهمل فيه الإصلاح السياسي وتتبنى سياسة تكميم الأفواه والتضييق على الحريات، بالتضييق على الناشطين والحقوقيين والإعلاميين وملاحقة المعارضين، وهو ما رفضه خاشقجي جملة وتفصيلا، وخاصة بعد اعتقال العديد من أصدقائه نتيجة مواقفهم الصريحة من سياسات النظام السعودي الجديد، من الدعاة والنشطاء الذين جرى اعتقالهم خلال عام التغيير الذي بدأه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ظهر جمال خاشقجي في الصحافة الغربية كشخصية مهمة يُعتد برأيها ويؤخذ بقناعاتها، فقد كان له عمود كامل في صحيفة واشنطن بوست الأمريكية التي وصفته بكونه معارضا إصلاحيا، وهو وصف ثبّتَه خاشقجي على نفسه بمواقف شجاعة وجريئة ومقالات واضحة تدعو للإصلاح والديمقراطية واحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان والقيام بنهج إصلاحي حقيقي وشامل على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، الإصلاح الذي اقتضى بعُرف ولي العهد الجديد إلى ترصد خاشقجي وإخفائه حال مراجعته قنصلية المملكة في إسطنبول كما ذكرنا. وبالرجوع إلى حادثة اختفاء الأستاذ جمال خاشقجي التي تطورت بشكل سريع مع ورود العديد من الأدلة للسلطات التركية تفيد بعدم خروج خاشقجي من القنصلية منذ دخولها وانقطاع اتصاله عن أفراد عائلته بشكل نهائي، في نفس الوقت الذي وصلت فيه طائرتان سعوديتان تقلان خمسة عشر رجل أمن سعوديا إلى القنصلية السعودية، لم يلبثوا أن غادروا مع اختفاء خاشقجي، بتوارد تلك الأدلة كان لدى السلطات التركية شكوك أولية واضحة لضلوع القنصلية السعودية في اختفاء الرجل قبل أن تعلن بعض المصادر الأمنية التركية حيازتها لأدلة تثبت قيام المسؤولين السعوديين بقتل خاشقجي بعد تعذيبه داخل القنصلية، محولة بذلك خبر مقتله إلى جريمة تتصدر وسائل الإعلام المحلية والعالمية لأيام متتالية وصولا إلى اليوم، وهو ما عزز فرضية الاختبار للقيم والأخلاق العالمية في النظام الدولي والمنظمات التي تهتم كثيراً بحقوق الانسان وقد وضعت الحادثة العلاقات التركية السعودية على المحك على نحو مشابه لما آلت إليه العلاقات السعودية الأمريكية، والتي لوحت بعصا العقوبات الاقتصادية على ولي العهد السعودي في حال أثبتت التحقيقات تورطه بجريمة الاغتيال. لطالما حرص خاشقجي على تبني خط المعارضة الإصلاحي دون أن يتجاوزه لنقض بيعة ابن سلمان، كما حرص على بقاء صلة وخط رجعة بحكومة بلاده، وكان يرفض أن يتم وصفه بالمعارض؛ ولم يكن يتخيّل أنها ستستخدم قنصليتها الدبلوماسية في اسطنبول كمركز اعتقال وتصفية لمعارضيها تماشيا مع سياساتها في ملاحقتهم، فقد نشر موقع «بزنز إنسا يدر» تقريرا كشف عن تاريخ الملاحقات السعودية للمعارضين، وتضمن التقرير المنشور تحقيقا لمركز معلوماتي كندي كشف عن وجود عملية ملاحقة سعودية لمعارضيها باستخدام برنامج تجسس إلكتروني صنعته جهات إسرائيلية، حيث أظهر التقرير الذي أعدّه معهد «سيتزن لاب» كيف أن عملاء سعوديين قاموا سرا بتركيب برامج تجسس في الهواتف الذكية لسعوديين، لتكون قادرة على ملاحقة نقادها في الخارج. بالتالي، نحن حتى لو حاولنا غض النظر عن نتائج التحقيقات التركية التي أكدت حيازتها تسجيلات صوتية تثبت تعرض خاشقجي للاعتقال قبل قتله داخل القنصلية السعودية، فإن مراجعة سريعة لممارسات النظام السعودي ضد معارضيه، تزيد احتمالية تورط السعودية بمقتله، لا سيما وأن فرضية اعتقاله بأوامر سعودية صارت حقيقة بعد أن أكدتها مصادر استخباراتية تركية وأمريكية، بعد أن تحولت عملية الإخفاء إلى قضية دولية، مسببة ارتدادات وتصريحات سياسية واسعة وحاسمة، وبالرجوع للوراء قليلا يتضح لنا حجم الاختطاف ومن ضمنهم أشخاص ينتمون للأسرة الحاكمة. وفي الحقيقة، يتفق الكثيرون على أن المملكة لم تتوقع أن تحظى قضية خاشقجي بهذا الاهتمام العالمي، بالقدر الذي جعل الولايات المتحدة تهدد فيه بإلغاء العديد من الاتفاقيات الاقتصادية معها، وهو ما أعلنته كثير من وزارات خارجية واقتصاد الدول عن رفض المشاركة في مؤتمر دافوس الصحراء الاستثماري في السعودية، في وقت تقف فيه المملكة على أبواب عقوبات اقتصادية أمريكية ودولية تهدد نموها الاقتصادي، وهو ما ظهر جليا في التضارب الذي حصل خلال اليومين الماضيين بين تصريحات النظام السعودي بالرد على أي عقوبات دولية محتملة، ونفي السفير السعودي في واشنطن لتصريحات بلاده في نفس الوقت. لقد شكل مشهد دخول المفتشين الأتراك للقنصلية السعودية سقوطاً مدويا لهيبة المملكة، وابتداء التفتيش وتتبع البراهين، ثم بقرار من وزير العدل التركي والنائب العام بدأ استجواب موظفي القنصلية، وطلب تفتيش بيت القنصل نفسه، غياب الهيبة السعودية وغرقها في صياغة المشهد الإخراجي لمواجهة نتائج التحقيقات التركية، ولكن أنقرة أدارت بأجهزتها الاستخباراتية والإعلامية الأزمة بكل قوة ورباطة جأش وحرفية، جعلت السعودية تعترف بالجريمة شيئاً فشيئاً. في النهاية أقرت السعودية بقتل خاشقجي وقالت في روايتها إنه قتل نتيجة شجار حدث داخل القنصلية، ولكن المعطيات ضعيفة جداً، فهناك نفي سعودي في البداية أن يكون خاشقجي لم يخرج من القنصلية، ثم رصدت الكاميرات العناصر السعودية بطواقمها الطبية والأمنية حين قدومهم المريب لتركيا قبل الحدث ومغادرتهم بعد الحدث فورا، وغياب موظفي القنصلية الأتراك وكثير من السعوديين وقت الحادثة، كلها شوهت الرواية السعودية، إذ إن حالة الشجار عادة تقع في مكان ما مع أناس من أصل المكان، لا مع فرق أمنية متخصصة، وإن كانت الفرق المتخصصة تنوي الاستجواب أو الخطف فهي حريصة على عدم قتل الضحية، لكن المشهد الظاهر للأحداث يقول إن النية كانت من البداية بهدف القتل ومن أوامر جهات عليا. أيا كان من سيتحمل مسؤولية القتل مسؤولون أو جنرالات سعوديون، أو مدى تأثير التغيرات الإدارية والقيادية في الدوائر السياسية والاستخباراتية السعودية، إلا أن المجتمع الدولي ما زال أمام الاختبار، حرية الرأي والتعبير، وضمان سلامة المؤسسات الدبلوماسية لتسيير وقضاء حوائج مواطنيها، وفقا للأعراف الدولية، كل ذلك وضع مصير ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على المحك، فالإصلاحات عادة لا تقتضي قطيعة مع الماضي، أو إلغاء المعارضة كي تفرض الإصلاحات، فالمعارضة هي من دعت للإصلاحات الحقيقية والابتعاد عن المعارك الوهمية والمشاريع الوهمية التي يصعب تحقيقها. إن حادثة الأستاذ الكبير والإعلامي القدير جمال خاشقجي -رحمه الله- أثبتت أن رهان الرئيس ترامب ودائرته المقربة من ولي العهد الجديد كان خاطئاً، فتصرفاته منذ توليه الحكم لم تكن قادرة على صياغة نظام سياسي جديد مستقر قائم على لغة الحوار والأسلوب الوطني الجامع، بل قامت على التحشيد والتحالف ضد دول عربية شقيقة مجاورة للمملكة، وعلى قمع الحريات والاعتقال التعسفي والمراسيم الارتجالية، فتعاطت مع جميع الأحداث بشكل آني ومؤقت بما يخدم استمرار الثقة الغربية بالحكم الجديد، وهو ما حطمته الجريمة النكراء بحق خاشقجي داخل قنصلية المملكة في إسطنبول، وأخيرا نستذكر مواقفه الجميلة وأخلاقه العالية وقربه من الجميع ومحبته في قلوبهم ستبقى راسخة لا أحد يستطيع إزالتها حتى وإن قاموا بتقطيعه أو إخفاء جثمانه، وقد فقدت السعودية رجلا صالحا ومصلحا يحب وطنه بدرجة ليست أقل من ادعاءاتهم بحب الوطن، وقد ألمح إلى ذلك حتى فيما يتعلّق بحصار دولة قطر الجائر والتي وصف فيها كتّابا وصحفيين في دول الحصار بمهرجين خلال الأزمة الخليجية.