11 سبتمبر 2025

تسجيل

الأرض المحبوسة

22 أكتوبر 2013

نظرت الأم إلى عيني ابنتها قائلة: فستان العيد اللي فات لسه جديد، وكأنها تكتشف أمرا ولا تضمر في نفسها عجز الأسرة عن شراء فستان جديد للابنة، وكانت المفاجأة في رد الابنة: يعني ألبسه العيد ده يا ماما؟، لترد الأم بسؤال ابنتها: وهو ينفع يا سمية؟، لتتوالى مفاجآت الحوار برد الابنة قائلة: العيد اللي فات أنا لبسته لما كنا مهاجرين في فاقوس، العيد ده إحنا في الزقازيق، يعني مفيش حد هنا شافني لابساه، وحيقولوا عليه جديد. كان عمر سمية يومها يقترب من التاسعة، وها هي بعد ما يتجاوز الأربعين عاما تقابل العيد بخطر الموت فوق ذات الأرض، ولكن من غير ذات العدو. وكأن الأرض في الإسماعيلية حبيسة عدوان مستمر، وكأنه قدر على أهلها استمرار حالة التهجير إلى المحافظات القريبة منها. شهد جيل الآباء تهجيرا من الإسماعيلية أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث كانت الطائرات الألمانية تغير على أكبر قاعدة للجيش البريطاني في الشرق الأوسط بالإسماعيلية، وكانت قوات روميل تقطع الصحراء الغربية بلا رادع لتصل عبر العلمين لثلاثة أهداف على التوازي هي الإسكندرية والقاهرة والإسماعيلية، وتعرضت الإسماعيلية لغارات متوالية، وكان على الأهالي أن يجدوا لأنفسهم مكانا آمنا خارج المدينة. ثم كانت حركة الفدائيين في مواجهة الاحتلال البريطاني في إعقاب إلغاء معاهدة 1936، لتبدأ حركة المقاومة بمظاهرات شعبيه لأيام تبلغ ذروتها يوم 16 أكتوبر 1951 عندما يهاجم طلبة المدرسة الثانوية مقر "N.A.A.F.I". الذي يقدم خدماته لأسر الضباط وجنود الاحتلال بميدان محطة السكك الحديدية، ويشعلوا فيه النيران ويحرقوا عددا من سيارات الاحتلال، وتستخدم القوات البريطانية الرصاص في مواجهة الأهالي، وتتعدد ألوان المقاومة وتنمو حركة الفدائيين، وتصبح شوارع المدينة تحت الحصار، وتكون الهجرة داخلية، بين حي العرب والحي الإفرنجي حيث يقل الحصار رغم أنه ساحة العمليات الفدائية. كانت الشوارع غريبة على أهلها وساكنيها، والجنود البريطانيون يبحثون ويفتشون ويهاجمون ويزرعون أيضاً عملاء لهم بحثا عن الفدائيين. العمال الفقراء تركوا معسكرات الجيش البريطاني التي كانت توفر لهم فرص العمل الوحيدة، ليجدوا قوات الاحتلال أمامهم بسلاح الإمبراطورية، وصارت الإسماعيلية حبيسة الحصار سواء للقادم إليها أو الخارج منها، أو لمن يتحرك في شوارعها. وكان هناك أيضاً من المصريين من واصل تعامله مع جيش الاحتلال. وأيضا يومها كان معلوما من العدو، وكان الهدف هو جلاء المستعمر عن الأرض. وأثناء العدوان الثلاثي عام 1956 كانت هناك هجرة داخلية بعيدة عن خط السكك الحديدية الذي يقسم المدينة نصفين، أو بعيدا عما كان من معسكرات للجيش البريطاني أو المطارات، وكان العدو معروفا أيضا. وكانت الهجرة الكبرى في أعقاب حرب يونيو 1967، حيث جرى تهجير سكان مدن القناة الثلاث، بل وتم أيضاً نقل مصانع للأسمدة والكيماويات والصباغة من السويس والإسماعيلية إلى وسط وغرب الدلتا. كان الهدف محددا وهو حرمان العدو الصهيوني من أن يتخذ أهل المدن الثلاث رهينة مدفعيته، وكان العدو واضحا وجليا، ومراجعة تاريخ تلك المرحلة تكشف حجم الدمار الذي أحدثه العدو الصهيوني في مدن القناة. ظلت الأرض حبيسة العدوان ما إن تنقضي حلقة من حلقاته حتى تتلوها أخرى، والمواطنون يعانون إما من قطع الرزق أو الهجرة، وكان القبول فعلا وطنيا وإراديا. أمة تواجه احتلالا أجنبيا وتنشد الاستقلال، فهل يمكن تحقيق ذلك دون ثمن؟ كانت الوقائع منطقية، ولم يكن هناك حيرة في الأمر، فإما أنك مع الاستقلال فتدفع الثمن، أو أنك مع المحتل فأنت خائن، معادلة بسيطة وواضحة حتى وإن حاول من يتهم بالخيانة أن يبرر أمره فلن يجد من يسمع له. ولكن ما يقع هذه الأيام في مصر يتجاوز المنطق الذي جرى به القياس في الماضي. يوم السبت 19 أكتوبر 2013، أي بعد 62 عاما من بدء المقاومة وحركة الفدائيين وحرق مبنى النافي، انفجرت عبوة ناسفة بجوار مبنى المخابرات بالإسماعيلية، وكانت الأضرار التي لحقت بالمبنى المجاور له أكبر مما أصاب مبنى المخابرات ذاته، والمفارقة أن الصبية التي قبلت أن ترتدي فستان عيد مضى منذ أكثر من 45 عاما، نجت من الموت وزملاءها في الشركة التي يعملون بها، ولكنهم لم يجدوا إجابة عن سؤال، من الذي يستهدفنا بالقتل. ومفارقة ثانية تعاني منها صبية الأمس، أن جارا لها فقد ابنة في مظاهرات واشتباك متبادل بين جماعة الإخوان وبين الأهالي، فكيف به يقبل بالقتل هكذا مبررا لحياته؟، وينطلق سؤال صارخ منها: همه مش مصريين دول ولا مسلمين؟ دول مين وعايزين يقتلونا ليه؟ والمفارقة الثالثة التي تلجم الألسن، من يمكنه أن يستهدف الجيش المصري، وبماذا نصف من يستهدف مقر المخابرات الحربية للجيش المصري؟ وكأن هناك من يقول للشعب المصري، إن كنت نجحت في تحرير إرادتك، فإننا سنحرق الأرض تحت قدميك!!، وستظل الأرض حبيسة محاصرة. وليست تلك نهاية المفارقات ولكن أصوات تخرج مؤيدة لهذه الأفعال، وأصوات أخرى تخرج متحدثة عن تصالح بين أطراف، وكأن كل الوطن والدولة والشعب والمؤسسات في كفة ميزان، وفي الكفة الأخرى جماعة الإخوان ومن أحاط بها من جماعات أو أفراد أو حتى تشكيلات يسارية في الداخل وعلاقات أممية وغربية في الخارج. الأمر في هذه المواجهة لا تجدي معه هجرة المواطنين الداخلية أو خارج الوطن. الأمر في هذه الحالة أن المواطنين هم جوهر المواجهة وبكافة الأدوات والوسائل وأيا كان الثمن. واقعة انفجار الإسماعيلية ليست هي الأقسى، ولكنها كانت تحمل عمقا يمكن ربطة بالتاريخ بين الوطن والمواطن والجيش وبين العدوان وعناصره. وهي ليست بالواقعة التي يمكن الخوض فيها على أساس طائفي، وإن حمل اليوم التالي هجوما مسلحا على كنيسة بالجيزة، ومشهدا لخروج مظاهرات من طلبة الإخوان بجامعة الأزهر في حالة من الانفلات الذي يتجاوز أن تكون المظاهرة وسيلة تعبير، فليس بينهم عاقل يقول لهم، إن الاغتيال والقتل والحرق ووقف الحياة، يثير فوضى ولكنه لا يحسم أمرا، وأنه مهما طال بهم أمد الفوضى زمنا أو مكانا أو حصد من أرواح الأبرياء ما حصد، فإنه لن يغير من الواقع شيئا، فيما عدا، أن لديهم ما ينتظرونه من مدد أو تدخل من الخارج، ولأنهم لم يقرءوا التاريخ، فهم لا يعلمون أنهم سيكونون مجرد أداة ستطؤها الأقدام قبل سواهم. ما يسمى بالإسلام السياسي ومثقفيه، لا وجود له فوق أرض مصر بغير أن يكون مصريا أولا، ودون ذلك فوجوده مجرد سراب وجرح قد يدمى لزمن ولكنه حتما سيندمل، حتى إن وجب العلاج بالكي بالنار. ولعلهم يدركون أن الشعب بلغ به الوعي أن حرر دينه من ولايتهم عليه، وحرر وطنه من محاولات تفكيكه، وأن العداء بينهم وبين الجيش هو بالأساس عداء بينهم وبين الشعب، وتحول الجيش إلى جانب الشعب هو الصدمة التي أطاحت بقدرتهم على استيعاب ما يجري. ولعلهم يدركون أن الشباب يعي مخططاتهم للتجنيد والإعداد، كشف الشباب الحقائق واستوعبها، ولا أظن أن هناك غافلا في مصر عما يجري. ستتحرر الأرض كما تحررت الإرادة، وستبقى مصر، وسترتدي الصبايا في كل عيد فستانا جديدا عندما يقوم مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية.