12 سبتمبر 2025
تسجيللم أدرك عندما عبرت فوق مقال هند الأخير "الموتى لا ينطقون أبداً" وتجاوزته لكثرة انشغالي كما أتجاوز عن أشياء كثيرة في حياتي أحبها لأجل أشياء فرض الزمن أهميتها علي، انني تجاوزت عن وداع مهم لإنسانة لم يربطني بها إلا سمو القلم وصدق الضمير، غفلت عنها كما غفل الكثير منا عنها، غفلت عن نصيحتها التي تركتها لنا على ورق سيجف يوما ما وسينسى خلف لهاثنا اليومي خلف الحياة. تسارعت الأحداث، ووقع خبر مرضها فجأة وسفرها، وبلا مقدمات قالوا "ماتت هند"، لا أذكر وقتها إلا أن الخبر نزل علي كصاعقة لم أهيأ لها، وتوقف كل شيء حولي بشكل مخيف، ولم يبق إلا وجهها المبتسم يرمق صدمتي بالخبر، وجهها الذي مازلت أذكره حتى الآن منذ آخر مرة التقيت بها منذ زمن، ليتني كنت أعرف أن ابتساماتها النقية ليست إلا إشارات وداع راقِ، ليتني كنت أعرف أن تألقها في تلك الليلة من ليالي عد القصيد لم يكن إلا تألق النجوم البعيدة، لكن كيف أعرف، وكيف تعرف هي، وهي أقدار مجهولة بيد الرحمن الرحيم!، لا ندرك قيمتها إلا بعد الرحيل، وفجاءة القدر. منذ رحيلها وكل شيء (انعفس) في رأسي، ودخلت في دورة للاكتئاب، ومراجعة للحياة، وجدت نفسي غارقة في كومة كبيرة من الأسئلة، لا أستطيع حصرها ولا الإجابة عنها، ومع هذا خضعت للحياة وواقعها المقيت، وعدت بلا رغبة إلى عملي ومن حولي ممن لم يعرف هند ولن يعرفها بعد الآن، لأنها رحلت إلى من هو أرحم منا، رحلت الى بارئها وخالقها، وعادت إلى التراب الذي أتت منه وأتينا جميعنا منه. في كل يوم نمر فوق الأرض ونعفر بأقدامنا وسياراتنا وأخطائنا ترابها، ونتركه خلفنا دون أن ننتبه أو نفكر أننا سنعود ذات يومٍ إليه، لأن لذة الحياة قادرة على تحوير مساراتنا إلى ما تشاء، ربما لأننا وبرغم يقننا الأزلي بأن الفراق سيأتي ذات يوم إلا أننا نتجاهله. بعضنا ممن فقد عزيزا استوعب الفناء وبعضنا ما زال مصرّاً على أن يتغافل عن كل شيء ويكمل حياة الانزلاقات اليومية، بل ويستمر في جحوده وغيّه، وآثامه وكأن الحياة باقية له. لم يتوقفوا لحظة ليفكروا أنهم سيعودون للتراب،وسيسألون عن كل ثانية عاشوها وكل خطوة خطوها. لا تهمهم الآخرة، يهمهم ما بين أيديهم الآن، ولا أعرف هل هو ضعف في الإيمان، أم فقدان له أصلاً. قد يكون أحد منا منهم، وكم هذا مخيف ومحزن جداً! هند أعطت الكثير للوطن، كتبت له بولائها وعشقها وصدقها، حاولت أن تصحح بقلم الصغير عالم أكبر منها، رغبة في أن ترى مجتمعاً صحياً، ووطناً مثالياً، كاملاً، يشبه أمنياتها وأحلامها له، ولكنها رحلت ولم تبق إلا حروفها ورائحة ذكراها، تطوف في أرجاء الوطن، تعانق سماءه، وأرضه، تحتضن أسرتها وأطفالها عن بعد، وهي ترجو ألا يضيعوا خلف حياة كاذبة، مغرية لحد التجاهل. قبل أن أغلق نافذة هذا الصباح.. سيمر هذا الصباح كما ستمر صباحات كثيرة لا نعرف من سنفقد فيها أيضاً، أحبابنا، أصدقاؤنا، أهلنا، أم أنفسنا، وستستمر الحياة حتى يشاء الله، كل ما أرجوه الآن أن يلطف بنا الله، ويرحمنا ويرشدنا إلى ما هو أفضل لنا، وأن يرحم هند أينما كانت، ويغفر لها، ويسكنها فسيح جناته، ويلهم أهلها الصبر والسلوان على مصيبتهم، ويحفظ أبناءها من كل شر، اللهم آمين. بقي لي كلام.. حان دورك يا وطن لتقدم لهند شيئاً، ولكل المبدعين من أبنائك.