15 سبتمبر 2025
تسجيلفي عينيه بريق ذكاء، وفي وجهه حكاية خاصة يدركها الجميع ما عداه!، عزلته لم تكن تعني أنه لا يشعر بما حوله، بل كان يشعر بكل شيء، ويرى كل التفاصيل دون أن يخرجها للآخرين، إنه طفل التوحد (م).. الطفل الذي بدأ يكبر ويصبح على مشارف المراهقة، وهو ما يزال محصوراً في عالمه، شُخصت حالته على أنها صعبة، لدرجة أن الجميع يئس من علاجه ومن إمكانية دمجه في المجتمع. كان يسير بلا توقف وعندما تقف أمامه عثرة ما، كلعبة أو حائط أو أي شيء يتوقف عن المشي ولا يتحرك أبداً، ولو طال الوقت، حتى يُميطَها أحدهم من أمامه. كان يكره أن يلمسه أحد، وبمجرد أن يحصل هذا تصيبه حالة من الهستيريا، وبعد كل المحاولات كُتب في ملفه أن هذا الطفل لا فائدة من علاجه وعليه أن يبقى في منزله، ولكن الله أراد له شيئاً آخر. (د) فتاة عادية، لم تكمل تعليمها، ولكنها كانت تملك من الحنان والذكاء ما يكفي لأن يصيب البحوث الطبية وتقارير الأطباء بالصدمة.! فلقد أُوكلت إليها مرافقة هذا الصبي الذي كان غالباً ما يُعزل عن بقية الأطفال في قاعة كبيرة يُطلق فيها العنان لقدميه، وكانت (د) ترافقه ذهاباً وإياباً، وفي كل مرة يقترب فيها من الحائط تسبقه وتقف أمامه فيغير مساره، لأنه يكره لمس البشر، كانت (د) تفكر فيه كثيراً حتى قررت أن تجازف بمحاولة تغييره، فبدأت بمحاولة لمس كفه وفي كل مرة كانت تحاول فيها كانت تصيبه حالة هيجان، لم تيأس، فعلتها عدة مرات، وفي آخر مرة دخل في حالة هيجان شديدة، دفعت الطبيب المسؤول لتعنيفها، وهنا حدثت المفاجأة، إذ تحول ذلك الهيجان إلى الطبيب، فلقد شعر (م) بالغضب لأنه صرخ وعنف مرافقته (د)، فبدأ يقترب منه ويدفعه بصدره، لم يهتم الطبيب بردة فعل الصبي، بل كان مشغولاً في تأنيبها وتوجيه لَفْت النظر إليها.. في صباح اليوم التالي حضرت كعادتها لحصتها معه، وهذه المرة بمجرد أن سمع صوتها نهض عن مقعده دون أن تناديه، فاقتربت منه وسارا معاً خارج الصف، كان الطبيب يقف خارجاً، وعندما شاهده الصبي (م) انتفض، وأخذ يرتجف، شعرت به (د) فضربت كفها بكفه، لكن كانت هناك مفاجأة أخرى فقد شبك أصابعه بأصابعها، وسار معها إلى القاعة الأخرى، تمالكت (د) نفسها، من هول هذه الاستجابة، وتيقنت بأن هذا الصبي يستطيع التواصل مع المجتمع، ولكنه لم يجد الوعي الكافي في صغره من أهله برغم اهتمامهم الكبير به، ولم يجد الطبيب الذكي الذي يثق في نفسه أكثر مما يثق فيما حفظه من علوم.. ذات نهار وفي ذات القاعة التي كانا فيها تحت مراقبة الأعين، بدأت بخطوة جديدة، أحضرت ثلاث حلقات ووضعتها على الأرض وبدأت تخطو فوقها وفي الثالثة وقفت، وقالت للصبي: (م) لا أستطيع الخروج لقد علقت، لم يكن ينظر إليها مباشرة ولكنه كان مهتماً بما يجري، فجأة اتجه إليها مباشرة ورفع الحلقة من الأسفل إلى الأعلى ليخرجها منها، ويضعها حول نفسه، كانت صدمة كبرى لها وللجميع ومن بينهم الطبيب، الذي أصرّ على أنها كانت تعرف الصبي خارج إطار المركز، فقد كان رافضاً أن يصدق تجاوب الصبي معها، وهو الذي كان سيخرج لأن لا أمل من علاجه، ولكنها قالت وبثقة: إنها لا تعرف عنه شيئاً سوى ما كُتب في الملفات.. منذ هذا التاريخ تغيرت حياة (م) وأخذت (د) تواصل جهودها في اللعب معه بأشياء أخرى، والأهم بدأت بإخراجه خارج المركز، وإشراكه في الرحلات الخارجية، لتكسر حاجز العزلة وتساعده في الاندماج مع المجتمع بطريقته، في أول رحلة له كانت خائفة جداً من أن تفقد السيطرة عليه، أو أن تصيبه حالة هيجان، ولكن عندما سارا معاً تجاه البوابة، وهو يقبض على أصابعها، اطمأنت وشعرت أن الأمور ستكون بخير، وفي ذات يوم خصص لزيارة نادي الفروسية، ركبت السلم أمامه، وهي تقول: أنا سأصعد على ظهر هذا الحصان!!، تسّمر طويلاً، وشعرت (د) بالحرج لأن الجميع كان يراقب ما يحدث منتظرين فشلها، حتى تحرك فجأة وصعد السلالم الصغيرة، ورفع رجله ليركب الخيل معها، حدث هذا في وسط ذهول الجميع، بكت (د) كثيراً وهي ترى بداية انسجام (م) مع المجتمع، وها هو اليوم برغم مرضه الصعب يمارس الرياضة بما فيها ركوب الخيل والسباحة ويلعب الكرة، ويزور أماكن مختلفة، ويقترب من الناس دون خوف. هذه قصة حاولت اختصارها جداً ولكن تفاصيلها جداً مؤثرة، تركت في حياة (د) و(م) وكل من عاصر هذه التجربة، ذكرى لن تُمحى.. قبل أن أغلق نافذة هذا الصباح.. هذه الفتاة القطرية البسيطة، لم تكن متخصصة، كانت محبة فقط، ذات ضمير حي وقلب نابض، واستطاعت التغلب على من أتوا به من الخارج بشهادة عليا. وتساءلت، ماذا لو أكملت تعليمها، ماذا لو وجدت الظروف البيئية المساندة، ماذا لو أُعطيت الفرصة؟ اعتقد أنها كانت ستغير الكثير، ولكنها تركت كل شيء لأنها تعبت، ولأنها بسيطة.