19 سبتمبر 2025

تسجيل

ترامب والانعزالية الأمريكية

22 يوليو 2024

من بين الأمور التي لا تحصى التي أثارها دونالد ترامب منذ ظهوره في المشهد الأمريكي عام 2016، أي قبل انتخابه رسميا عام 2017، هي هل سيدفع ترامب الولايات المتحدة إلى الانعزالية؟. تعنى الانعزالية الأمريكية المقصودة ببساطة تخلي الولايات المتحدة عن دورها القيادي في العالم طواعية. برز الحديث والجدل الأمريكي حول الانعزالية في نهاية ولاية الرئيس بوش الابن، حيث طلت أصوات أكاديمية ونخبوية عالية تنادي بالانعزالية، وذلك من عدة منطلقات رئيسية من بينها، الأضرار البالغة التي لحقت باضطلاع الولايات المتحدة بدور القيادة، حيث يستلزم هذا الدور دعم الحلفاء وحمايتهم، تكبد الخزينة الأمريكية نفقات باهظة، الانخراط في كل الأزمات الدولية وفي بعض الحالات عسكريا. ومن الحجج الداعمة للانعزالية كذلك، عدم قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار بدور القيادة، إذ إن الاستمرار في هذا الدور في ظل الظروف والتحديات الراهنة في الوقت الحاضر سيؤدي إلى إضعاف الولايات المتحدة بصورة نهائية. وعلى البر الآخر، تناطح حجج الانعزالين حجج التدخلين أو أنصار القيادة، وبعض من تلك الحجج في غاية الوجاهة، والتي من بينها، الربط بين القيادة الأمريكية والفوضى في النظام الدولي. إذ يرون أن ما تبقى من استقرار في النظام الدولي يعزو بصورة أساسية لاستمرار الدور الريادي العالمي لواشنطن في حين لا تستطيع قوى أخرى أن تضطلع بهذا الدور في الوقت الراهن. كما يرى آخرون أن الانعزالية ستضر بمصالح واشنطن المترامية الأطراف في العالم، كما ستؤدي إلى تنامي ظاهرة الإرهاب الدولي، وتفشي الديكتاتورية، وتراجع الاهتمام بالقضايا الخطيرة كالانتشار النووي وتغير المناخ. ويلاحظ المتتبع لسياسة الولايات المتحدة منذ تولي إدارة أوباما أن ثمة تغيرا كبيرا على السياسة الخارجية الأمريكية يشير إلى أمر جوهري رئيسي وهو محاولة الولايات المتحدة إعادة صياغة دورها القيادي في العالم، أي محاولة إظهار استمرار القيادة الأمريكية في العالم، لكنها قيادة «انتقائية إلى حد بعيد» أو قيادة غير تدخليه، والبعض يطلق عليها «قيادة من الخلف». ويعزو ذلك من إحساس الولايات المتحدة العميق بعدم قدراتها على الاضطلاع بقيادة تامة كما كان في السابق. وعلى هذا الأساس، دشنت إدارة أوباما في إطار ما بات يعرف بعقيدة أوباما مصطلحات وسياسات غير معهودة عن واشنطن، من أبرزها «تقاسم الأعباء مع الشركاء» «الحروب الذكية» «التدخل في الأزمات الحرجة أو على المحك». ومع تولي ترامب سدة الحكم في واشنطن، جدد الجدل من جديد بفضل سياساته العنيفة مع أقرب الحلفاء ومن قبلها شعاره الانتخابي «أمريكا أولاً»، حول الانعزالية الأمريكية. في واقع الأمر، هناك نزعة انعزالية واضحة بصورة كبيرة لدى ترامب- حتى دون أن يعي ذلك أو يعرف ما هي الانعزالية تحديدا - لاسيما وأنه ينطلق في تعاطيه مع السياسة الخارجية من منطلق الصفقة، ولا يكترث بأي قضايا خارج نطاق المصالح الضيقة لواشنطن كالاستقرار العالمي أو تغير المناخ. لكن في ذات الوقت، من الصعب أيضا أن يدفع ترامب وحدة الولايات المتحدة نحو الانعزالية، فالمصالح الإستراتيجية الأمريكية تصنعها شبكة معقدة من المؤسسات الداخلية الأمريكية. والأقرب إلى الصح والموضوعي، أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض يعكس تنامي توجه شعبي يرغب الانعزالية هذا من جانب، ومن جانب آخر أن وجود ترامب عامة في المشهد السياسي الأمريكي سيساهم في تعزيز التوجه الانعزالي الأمريكي. واحد من العوامل الرئيسية للشعبية الجارفة لترامب هو خطابه الخارجي الناقد بشدة للإنفاق العسكري الأمريكي في العالم، والحروب في المناطق البعيدة عن الولايات المتحدة، وكذلك الدعم الأمريكي لحلفاء مثل أوكرانيا، وهجومه على الأمم المتحدة، ودعمه للحمائية التجارية حتى ضد شركاء وحلفاء واشنطن، وانسحابه من المؤسسات الدولية كمنظمة الصحة العالمية، وعداؤه لحلف الناتو... وغيرها. ويحظى هذا الخطاب بدعم شعبي متنامٍ بسبب الوضع الاقتصادي المتردي الذي يئن منه الأمريكان وفي اعتقادهم الراسخ أنه بسبب استمرار الولايات المتحدة الاضطلاع بدور القيادة على حساب الشعب الأمريكي. إذ بحسب استطلاعات مركز بيو، لا يدعم ما يقرب من 70 % من الأمريكان الدعم الأمريكي لأوكرانيا. وفي استطلاعات مماثلة عبر عدد لا يستهان به عن عدم اقتناعهم بالقيادة الدولية الأمريكية. بنسبة تتجاوز الـ 90% ترامب هو سيد البيت الأبيض القادم، والحظ حليفه بقوة حتى الآن خاصة بعد الأداء المخيف لبايدن في المناظرة الأخيرة، ومحاولة اغتيال ترامب التي رفعت شعبيته لنحو 20 % في غضون ساعات. ومن ثم، ستشهد ولاية ترامب القادمة الكثير من المظاهر الخارجية الداعمة للانعزالية الأمريكية على المدى البعيد.