15 سبتمبر 2025
تسجيلخذ مثلاً "مسألة الموت"، وهي الحقيقة الكبرى التي تعرفها البشرية ونعرفها جميعاً نعرفها بذكائنا الفطري ولكن لا نعرف لماذا نموت، ولماذا نهلك ولماذا فجأة ننتقل من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، ونفارق الأهل والأحبة والديار ونترك وراءنا التركات والأموال؟، فنحن الذي نعلمه عن حقيقة هذا الموت أنه أمر غيبي يأتي فجأة أحياناً وبدون مقدمات، ونعرفه أحياناً أنه يأتينا عندما نهرم ونشيخ ونبلغ أرذل العمر، ونعرفه أنه يأتينا عندما تصاب أجسادنا بأمراض تكون علاماتها وعوارضها من تلك الأمراض التي يطلق عليها الأطباء بالأمراض العضال التي ما تكون غالباً نتيجتها الموت. إننا بكينونتنا البشرية نعرف هذا الموت حق المعرفة، ولأنه حقيقة نعرفها كلنا جيداً، ونعرف بذكائنا الفطري أنه أمر حتمي لكننا دائماً وأبداً نفر منه، ونخشاه، لا نحب أن نسمعه، ولا نحب أن نذكره، نعرف أنه قدرنا جميعاً ولكننا في قرارة أنفسنا لا نحب أن نفارق هذه الحياة، ونفارق الأهل والأولاد، ونفارق الأموال، ونفارق الأوطان والديار، لا نحب أن نفارق حياة فيها الملذات والشهوات والنعم والمتاع، لأنها خلقت داخل مفهوم كينونتنا البشرية المترادفة مع فطرتنا البشرية وذكائنا الفطري وهذا ما أشار إليه الحق سبحانه وتعالى "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" الآية 14 سورة آل عمران. إنها إشارات واضحة لكل ما يعتري كينونتنا البشرية من التعلق والتشبث بهذه المتع الجسدية والنفسية والسيكولوجية، والتي عبر عنها الحق هنا بقوله "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ" وعدد هذه الأصناف كما وضحتها الآية الكريمة، ولهذا كله فإننا نفر من هذا الموت والذي أكده سبحانه وتعالى بقوله في الآية الكريمة "قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" الآية 8 سورة الجمعة، وأكدها في آية أخرى بقوله سبحانه وتعالى "كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" الآية 57 سورة العنكبوت، وقوله تعالى أيضاً "وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ" الآية 19 سورة ق. إذاً تجد الحق سبحانه وتعالى في كل الآيات القرآنية التي أشار إليها بكلمة "موت" ومرادفاتها توضح حقيقة هذا العالم الغيبي، وهي مسألة الموت في السيطرة والتحكم في نهاية المطاف من أعمارنا وآجالنا وخيرنا وشرنا وخوفنا وقلقنا وسعادتنا وشقائنا، وأعمالنا وتصرفاتنا، لهذا فإن مسألة الموت كانت ولا تزال محور التساؤلات في كل المذاهب والعقائد والدراسات الإنسانية والفلسفية على مدى كل العصور والأزمان. ولطالما كان الموت من أكبر الأسباب لظاهرة القلق والخوف، وهاتان الظاهرتان من أكثر الظواهر التي تؤرق الفكر الإنساني في التعامل مع مسألة الموت، لعلم الإنسانية جميعاً أن جميع الكائنات والموجودات على ظهر الأرض سوف تفنى وتموت عاجلاً أم آجلاً، وعلى الرغم من ذلك فإن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يدرك تماماً وحق المعرفة واليقين أنه سيموت وكما قال فوليتر VOLTAIRE الكاتب والفيلسوف الفرنسي من أجل ذلك يعتقد الإنسان بحق أن كل الموجودات فانية وأن كل وجود ينزع إلى العدم، ومن هنا جاء التأكيد الحق سبحانه وتعالى بقوله لنبيه محمد ﷺ خاتم الأنبياء "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ" الآية (30) سورة الزمر، وقوله سبحانه وتعالى أيضاً لنبيه محمد ﷺ "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ" الآية 34 سورة الأنبياء. إن الإنسانية جميعاً وبكل ذكائها الفطري تعرف أن وجودها سينتهي أخيراً دون معرفة الزمان أو المكان أو الطريقة التي يموتون بها، وذلك مصداق قوله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة "وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير الآية 34 سورة لقمان، وقوله تعالى "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ" الآية 78 سورة النساء، ومن هنا فإن القلق والخوف من الموت أمر شائع وعام لدى البشرية ذلك أن الموت يقتحم أفكارنا وحياتنا بطرق شتى ولأسباب متعددة سواء أكانت هذه الأسباب بيئية خارجية كموت عزيز مثلاً أم نفسية داخلية كمرض يصيب الإنسان أو اكتئاب أو عندما يحبط عمله وإذا كان الموت والقلق منه لا يمثلان أمام أذهاننا وخواطرنا في كل لحظة وآن فإنهما في الحقيقة لا يغيبان كثيراً عن فكرنا وحياتنا ومجتمعنا، الذي نعيش فيه ونحياه، ويذكرنا ذلك بقول الفيلسوف الإغريقي هيرا قليطس عام 505 ق.م بقوله "إن كل ما نراه هو الموت.. صحيح أن الحياة مستمرة وبالرغم من استمرارها فإنها مرتبطة دائماً بالموت، ولكن في النهاية ستظل النظرة إلى الموت في مسيرة الإنسانية، تشوبها الاختلافات والمواقف بحسب المعتقدات والديانات والنظريات والأفكار ومن حيث إن الموت بوصفه وسيلة يحاول الإنسان بها اشتقاق أهداف معينة وجوانب إشباع من البيئة المحيطة به كما في حالة التهديد بالانتحار أو الموت بوصفه انتقالاً إلى حياة أخرى، والتي قد ينظر إليها على أنها حياة رهيبة شنيعة أو مجيدة رائعة ينتظرها الشخص بهدوء أو خوف أو على أنه راحة من الألم أو موت في سلام. واختتم كل هذا بقوله سبحانه وتعالى "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي" الآيات 27-29 سورة الفجر، إنها الآية العظيمة للإنسانية جميعاً في علاج ظاهرة القلق والخوف ومواجهتها لمسألة الموت عندما تبدأ خطوات الرحيل ومغادرة الحياة نحو وجهة أخرى لا يعملها إلا أولئك الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، وأولئك الذين تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون حيث لا خوف ولا حزن من الموت ولا بعد الموت والبشرى لعودة ما بعد الموت في جنات الله مفتحة لهم الأبواب. وللمقال بقية الأسبوع المقبل [email protected]