27 أكتوبر 2025

تسجيل

مهمة

22 يونيو 2015

كانت المهمة التي كلَّفني بها الحاكم (يوسف دامير) قاسية جدًا، لكنني اعتدت على قسوة المهام، وإنجازها بكفاءة مهما تشعبت. ومنذ خلفت والدي في مهنة تجميع ثروات الحكومة، وتحديد مسار إنفاقها، وأنا أستعذب المشاق، أسافر إلى القرى والوديان، والسفوح التي بها زراعة ورعي، أو أغوص في أحياء مزرية في المدينة، بحثًا عن رماد ثروة قد يكون منثورًا هنا وهناك. لست شحيح المدينة الأول، كما دوّنت أحبار جماعة الذكرى والتاريخ، وكما تهمس الألسنة حين يمر فرسي العبَّار في مكان ما، ولكن حريصًا، وحارسًا أكيدًا ضد الخلل والتبذير. وحين أجلس إلى نفسي أحيانًا، أعد ما أنجزه حرصي وتوجيهي السليم من آبار نقية للمياه، وطلمبات حديثة للري، ومرابط للدواب في الأسواق، وحتى مساحات خضراء للتنفس، أحس بالزهو، وأستغرب، كيف طاش مني لقب (البكوية) حتى الآن؟.. وكيف لم يضعوني حاكمًا للإقليم مكان ذلك التركي صاحب النزوات يوسف دامير؟ لم أكن أحسده حقيقة، لكن مجرد استغراب.. مجرد استغراب فقط.سميت مهمتي بمهمة التأكد، وصدر فيها مرسوم رسمي من مكتب الحاكم دامير. وكانت، في الحقيقة، مهمة غير محددة الملامح. كان علي أن أحدّق بذهني كله، لأعثر على ملامحها وسط الضباب. أحضرت أوراقًا وقلمًا، وبدأت في التحديق بما ظننته خيوطًا قد تقودني إلى الطريق. كانت أحبار جماعة (الذكرى والتاريخ) السرية، قد محت أشياء كثيرة وقديمة من حوائط المدينة، وكتبت مكانها إرهاصات الحرب. كتبت عن عطايا، ولد الحكومة الجديد وذلك المستقبل المجيد الذي ينتظره، واستعانت برسام مبتدئ ليرسمه بلا حاجبين ولا عين، وعلى فمه عظم جاف من عظام الكلاب. كتبت عن الجرداء أم العيال السبعة، تلك التي تلاشت، وجفت في (خزي العين) من دون أن تعطي ضوءًا أو ملامح للطريق. وفي حائط مجلس المدينة بالتحديد، عثرت على رسم مستهزئ للببغاء الإفريقي (كيكور)، ومنقاره ملتصق بفم متورم الشفتين لامرأة زنجية، بينما وجه قريب الشبه بوجه دامير، منكفئًا على الأرض، وقد كتب على الرسم.. هكذا تدار الأمور في زمن الحرب.بدأت بحي (ونسة) الذي كان برغم وعورته، واتساخه الشديد، موردًا هامًا من موارد الثروة، ولعله المورد الوحيد الذي لا يتأثر بشح الأمطار، أو هلاك الماشية، ولا يملك عذرًا من تلك الأعذار التي يسوقها دافعو الضرائب كلما ملّوا، أو استسخفوا يد الحكومة الطويلة، وهي تلاحقهم. لم أكن قد دخلت الحي منذ مدة طويلة وكنت من رواده في شبابي المبكر، وقبل أن ألتحق بتلك الوظيفة الهامة، حيث أكتفي بمندوبين أقل شأنًا، يخوضون في وحله حتى القاع، ويعودون بالحصاد. كنت أبحث عن (ولهان الخمري) تاجر المنكر والرغبة، أتأكد من إغلاقه لتجارته، واستعداده ليكون قليل الذوق الرسمي في الحرب القادمة.