18 سبتمبر 2025

تسجيل

الشاويش خصر

21 ديسمبر 2012

كان أحد أقاربي، واسمه فضل الله، يملك مطعمًا متخصصًا لبيع السمك فى سوق حى النور الشعبي، سماه مطعم (الجنتلمان) وكان اسمًا غريبًا لمطعم، لا علاقة له بتلك الكلمة الإنجليزية التى يوصف بها الرجل ذو المروءة والشهامة، ولياقة السلوك. لم أكن قد رأيت قريبى ذلك منذ سنوات طويلة، تقترب من العشر، ولا زرتُ مطعمه إلا مرة واحدة برفقة والدى حين كنت طفلًا، ولا جاء يبارك لى عيادتى التى كانت فى حى يسكنه منذ سبعينيات القرن الماضي، ويمارس فيه صنعة بيع السمك الذى يشتريه مباشرة من الصيادين فى البحر، كما جاء بعض أقاربى الآخرين الذين يتشتتون فى الجوار، لكننى فوجئت به وقد مضت خمسة عشر يومًا على حادثة الزفة المسروقة، يدخل غرفتى فجأة، وبيده كيس من الورق البني، ينز منه الزيت، وتنبعث رائحة السمك المقلى كثيفة تخنق جو الغرفة، وضعه على الطاولة أمامي، ونز شيء من الزيت إلى دفتر الوصفات ولوَّثه. فى تلك الخمسة عشر يومًا لم يظهر (إدريس علي) مرة أخرى فى محيطي، لا شخصيًا ولا عبر احتيال جديد، وأخبرنى الشرطى العجوز، حين زرته فى مركز الشرطة فى إحدى الأمسيات، ورأيت شريطه العسكرى ينفلت مجددًا بعد أن زال مفعول الصمغ، وفرغت العلبة الصفراء كما يبدو، أن أنسى الموضوع تمامًا، خاصة أننى لم أفقد شيئًا، وأن أحافظ على عربتى بتغيير الأقفال الهشَّة التى عليها، ولم ينس أن ينصحنى متحدثًا بصوت عال، ويفتل شاربه الأبيض الكثيف، باستخدام أقفال أمريكية أو ألمانية، لأنها تستعصى على الفتح حتى بمفاتيحها الأصلية أحيانًا. سألتٌه إن كان قد فشل فى اعتقال المحتال إدريس، فهب واقفًا وهو يردد:  — لا يوجد مجرم اسمه إدريس ولا متاريس فى هذه المنطقة التى أعمل فيها قبل أن تولد، أهل العرس هم الذين استلفوا عربتك، استخدموها مؤقتًا وأعادوها..وأنت تنازلت عن مقاضاتهم باختيارك، وأنا أنتظر العريس حتى يعود من شهر العسل، وأحاسبه بطريقتي..انتبه إلى حديثك.. ولا تقل فشلت للشاويش خضر أبدًا مرة ثانية.  — كان قد عاد إلى الجلوس مرة أخرى، وجهه الموشوم بتلك الخطوط الرأسية التى تحيله إلى أهل الشمال، قد احمرّ قليلًا، وألمح فى عينيه نظرة غريبة، كأنها نظرة رجاء أن أذهب من أمامه بلا مشاكل. تلك اللحظة أصبت بدهشة حقيقية، ولم استطع أن أستوعب ذلك الكلام الغريب الذى سمعتُه، هل يكون ذلك الشرطى العجوز شريكًا لإدريس الذى ينكر وجوده، ويدفعنى إلى إنكار وجوده مثله، فى سرقة العربة وتأجيرها لأهل العرس، ومصائب أخرى لا أدرى عنها شيئًا؟، وقد رأيت إدريس مرتين فى يوم واحد، وزارنى جيش كونه وأرسله لغزو عيادتي، وأصدق تمامًا ما قاله العريس المفجوع بشأن تأجيره للعربة. لم تكن ثمة جدوى من مناقشتى للشاويش الغريب فى قناعاته أو فساده.. لا أدري، وقد دخل القسم فى تلك اللحظة، زميله الشاب، وهو يجر صبيًا متسخ الملابس، وذابل العينين، سرق حذاء ممزقًا من أمام مسجد فى وقت الصلاة، وشاهده صاحب الحذاء، يتمشى به فى السوق واقتنصه. على أن أغيّر قفل العربة بقفل أقوى كما نصحني، وأبحث عن مركز شرطة آخر، أقدم شكواى فيه، إن عاد إدريس بإحد  الاعيبه وأربكنى مرة أخرى. لم أقل للشرطى شيئًا وخرجت من عنده، وتشغلنى فكرة أن أنقّب حى النور وحدى باحثًا عن ذلك المقتحم.