14 سبتمبر 2025
تسجيلأحد أهم أساب ضعف البنيان الأسري في مجتمعنا الإسلامي: ضعف تناقل الإرث الاجتماعي — الذي يعني رصيد الخبرة الحياتية المنضبط بالكتاب والسنة من الآباء إلى الأبناء —، وخطورة هذا الأمر واضحة غير محجوبة خاصة مع الأسر الوليدة التي تبحث لها عن عش آمن أو مستقر ثابت! في التاريخ العربي امرأة تدعى أسماء بنت خارجة الفزارية أهدت ابنتها ليلة زفافها وصية غالية بل أهدتها حياة هادئة وكانت تتغني بذلك وكانت تردد دائما (لو أطاعتني النساء ما طلقت امرأة) ذلك أنها امرأة خبرت الحياة الزوجية وفهمت طبيعة الرجال لا عن طريق خوض تجربة مبتورة من نصائح وتوجيهات، بل عن طريق إرث هائل ورثته عن أمها وجدتها وأهدته لابنتها لتهديه بالتبعية إلى صغيرتها، وبهذا تنتظم الحياة الهادئة التي تبحث عنها كل امرأة، فلنستمع إلى تلك الوصية ثم نعلق عليها قليلا، تقول أسماء لابنتها: "يا بنية: إنك خرجت من العش الذي فيه درجت فصرت إلى فراش لم تألفيـه وقرين لم تعرفيه، فكوني له أرضاً يكن لك سماء، وكوني له مهاداً يكن لك عماداً، وكوني له أمة يصر لك عبداً، الصحبةُ بالقناعة، والمعاشرةُ بحسن السمع والطاعة، تعهدي لموقع عينيه فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم منك إلاّ أطيب ريح، تفقدي لوقت طعامه والهدوء عند منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة، واتقي الفرح إن كان حزيناً والكدر عنده إن كان فرحاً، ولا تفشي له سراً ولا تعصي له أمراً، فإنك إن أفشيت له سراً لم تأمني غدره وإن عصيت له أمراً أوغرت صدره.." هذه الكلمات الضاربة في عمق الحياة الزوجية تنبئ عن خطة متكاملة تخطها أسماء لابنتها حتى تفوز بمعركة استقرار الحياة الزوجية، خطة لا تحتاج إلى كبير تنظير بقدر ما تحتاج إلى التطبيق، المرأة بفطرتها الممزوجة بالحكمة الواضحة أبرزت عن بعد نظر عجيب، ولئن أعجبتك دقة الصياغة فإنه ليطير عجبي من تلك الخبرة الهائلة لتلك المرأة بطبيعة النفس البشرية التي هي نتاج لخبرات أمهات شتى سبقنها، لقد سبرت أغوار النفس البشرية لتخرج لنا دررا لو أحسن تطبيقها من الرجال والنساء على حد سواء ما تعست امرأة ولا شقي رجل. فمع مطالبتها لابنتها أن تكون أرضا لزوجها ألمحت لها أن الغاية من ذلك أن يكون هو لها سماءً. فالبيت لا يسير أبدا بتنازل طرف واحد في غيبة الطرف الآخر، بل هي عملية متكاملة بين شريكي الحياة، لا يستأسد فيها طرف على طرف، بل تنازل فيها كل زوج لزوجه، ويتفهم كل منهما طبيعة الآخر ويعتذر له ما أمكن، ويتجنب ما أمكنه إغضاب زوجه أو المساس بما يعكر صفاء حياتها، فإن حدث عن غير قصد أو عن ضعف بادر إلى زوجه فأصلح ما أفسد واعتذر عما أخطأ، وحاور وناقش وتفهم، ولم يخلد إلى النوم إلا وقد تراضيا واصطلحا، وهذا المنهج لا ينقص من رجولة الرجل ولا من كبرياء المرأة بل إنه من دلائل رضا الله على المرأة فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِنِسَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْوَلُودُ الْوَدُودُ الَّتِي إِذَا غَضِبَتْ أَوْ غَضِبَ قَالَتْ يَدِي فِي يَدِكَ لَا أَكْتَحِلُ بِغِمْضٍ حتى ترضى". ما يهمنا الآن وما يحتاج أن نخلص منه وأن نركز عليه أن الأبناء في الماضي كانوا يتعلمون من آبائهم إدارة الحياة القادمة عن طريق جلسات تعليمية تربوية نفسية، وهذا يفتقده الأبناء في عصورنا حتى صار بعضنا يقذف بأبنائه في لجة البحر الهائج دون تعليمه كيفية السباحة!!