12 سبتمبر 2025
تسجيلفي بداية عام 1990م قررت أن أعود للجامعة لإكمال الدراسات العليا، وعرضت الأمر على والدنا الهديفي رحمة الله عليه، فغضب ورفض وظن أن هناك ما يضايقني، واتصل بمن هم حولي في معهد تدريب الشرطة وسأل إن كان هناك من أغضبني.. فأثبِت له أنني أجد كل حفاوة وتقدير – وهذا ليس بغريب على أهلنا في قطر - ولكني أطمع في إكمال الدراسة، فحاول وحاول أن يثنيني عن القرار ثم وافق بعد أن اشترط علي العودة بمجرد الانتهاء، وما كنت أظن أنه يتابع دراستي، ثم تفاجأت بالرسائل التي يطالبني فيها بالعودة، وعندما كثرت الرسائل عرضتها على إدارة الجامعة فتعجبوا من الحرص والوفاء ووافقوا على أن ألبي النداء. وكانت رحلة العودة إلى دوحة الخير في منتصف العام 1994م، وسعدت في هذه المرحلة بالسكنى في بيت الوالد غانم رحمه الله، وطلب منى إقامة دروس في مجلسه – وينبغي أن يكون في مجالسنا ذكر الله – بالإضافة إلى المساهمة في تدريس بعض أبنائه وأحفاده، وعشتُ بصحبة الاخ الفاضل الشيخ/ علي الجنيد - رحمة الله عليه - أياماً جميلة يصلنا فيها من بيت الوالد غانم رحمه الله الطعام والشراب وكسوة الصيف والشتاء والنصح والتوجيه وكل ما تتضمنه معانى الأبوة. وقد اتضحت لي بعد هذا القرب صفات عجيبة أذكرها لنترحم عليه، ولأثبت للجميع أن الوظائف والأموال والمهام لا تمنع الموفق من المسارعة في الخيرات، فقد كان والدنا لا يتأخر عن صلاةٍ بل ما كان المؤذن يفرغ من الأذان – ووالدنا رحمه الله - خارج المسجد، وكان كثير التلاوة عميق التدبر، يسأل عن معانى الكلمات وتفسير الآيات، ويطالب الإمام بأن يطيل السجود ويجتهد في تحقيق الخشوع، وكان سريع الدمعة اذا سمع القرآن أو حضر الدروس، وقد كان من أحرص الناس على مجالس العلم، وكان يتفقد المصلين ويزور المواظبين اذا مرضوا ويتفقد أحوالهم، وكثيراً ما كان يخصهم بالتمر والعطايا، فإذا جاء موسم الحج اصطحب الأعداد الكبيرة من الأهل والمعارف على نفقته، وتتجلى خلال السفر الأخلاق التي كان – رحمه الله - يتمتع بها والسفر يُسفر عن أخلاق الرجال.. ومن الأشياء التي ميزه الله بها ووفقه فيها استقرار التدين طوال المدة التي صحبته فيها حتى وفاته - رحمه الله - فلم يترك المسارعة إلى الصلوات ولم يتوقف عن الصدقات، وكان إذا فرغ من الصلاة يلتفت ويتعهد الغرباء وكثيراً ما كان يوصي لهم بشيء من المال، وكانت فراسته في معرفة أصحاب الحاجات عجيبة. ولم يقصر في تلاوة السور والآيات وفعل الخير حتى حجبته عنا جائحة كورونا، واستمر على ذلك في بيته بل ربما تضايق إذا اتصل عليه شخص وقت تلاوته وورده من القرآن، وربما رفض توقيع الشيكات التي يرسلها له الموظف حتى يفرغ من التلاوة والأذكار. ومسجد الوالد غانم رحمه الله كان يمتلئ بالمصلين، ووجود الدروس في المساجد الكبيرة مهم ولكن الوالد كان يفضل أن يكون الدرس مختصراً مع اهتمامه بكثرة الدروس، وقد طلبت منه مرة أن يسمح لنا ببعض الإطالة وعرضت عليه أن يخرج قبل انتهاء الدرس إذا كان هنالك ضرورة فرفض وقال: لا يمكن أن أحرم نفسي من الخير حتى لو أطال الشيوخ دروسهم ولا أرضى أن تفوتني الفوائد والأجر. وقد اعتاد رحمه الله استضافة بعض المشايخ للمشاركة مع من في المسجد في الصلاة والدروس، وكان يحتفي بهم ويكرمهم غاية الاكرام، وكان اهتمامه بالسنة وإنفاقه على طلابها ومراكزها كبيراً، وأسأل الله أن يكتب له كل تلك الأعمال، وعلماء السنة أولى الناس بأموال الخيرين الفضلاء من الأمة لأن في حفظ السنة حفظ للدين. اللهم يا ربنا الرحيم ارحم والدنا غانم وأمواتنا وأموات المسلمين، ولله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلنصبر ولنحتسب. وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا.. وإنا على فراقه لمحزونون.