14 سبتمبر 2025
تسجيللو تساءلنا مثلاً عن أثمن شيء في الكون فماذا ستكون الإجابات؟ يا ترى ما الذي تفكر به؟! ما الذي يخطر ببالك؟! أكاد أجزم أن هناك الكثير من الاستفهامات تتراقص في مخيلتك؟ لقد طرحت السؤال على أكثر من شخص فماذا كانت الإجابات؟! قد أثرت بسؤالي حفيظة التفكير، وشحذت همم الفضول، للبحث عن إجابة عن هذا السؤال الذي ربما يدق لأول مرة أبواب الخواطر والأفكار، أو ربما كنا نرى أشياء كثيرة ثمينة، فلم نتمكن من المفاضلة بينها، ولكن أن يُطرح السؤال بشكل مباشر في رسالة نصية عبر تطبيق الواتساب، فهذا لم يكن متوقعاً، كنت أشعر بأصدقائي وقد وثبت مشاعر الدهشة على محياهم، خصوصاً أنهم لم يتعودوا أن يُسألوا مثل هذه الأسئلة على مثل هذه التطبيقات، التي تندح بالعبثية، فكانت المفاجأة التي أربكت مخيلتهم، وأرعشت أسلاك أذهانهم. احتار الكثير وربما البعض لم يفكر يوماً في هذا السؤال! فمعظم الإجابات انحصرت في إدراكهم الشخصي لهذا الكون، ومعظمها كانت تدور حول الماديات التي علقت الإنسان من رقبته وهو يدور في حلقات ضائعة لا ينفك يبحث عنها، أو أدوات سخرها الله لهذا المخلوق العظيم، نعم العظيم والأغلى والأثمن. إنه أنت أيها الإنسان، أنت الأكثر قيمة، أنت الغالي، أنت النفيس، أنت سيد هذه الأرض التي سخرها الله لك، في خدمتك وطوع أمرك، ولكن لكي تستطيع أن تحكمها يجب أن تعرف قيمتك قبل قيمتها، وتستشعر قوتك قبل قوتها، فأين تكمن قيمتك؟ أنشأت المدنية الحديثة، المدينة الساحرة، التي كنا نتخيلها في قصص الأطفال، ولكن هذه الأخيرة قد فاقت كل التخيلات والتصورات، فقد ذابت فيها الحدود، وتزاوجت المسافات، وتمازجت الأصوات، وتماهت الأمزجة، وأصبحت الأخبار التي تحدث في مشارق الأرض ومغاربها تستقر بين كفوفنا، نقلب كلماتها وصورها برؤوس أناملنا، لعمري تلك معجزة لم تتصورها العقول في ماضي الأزمان، وها هي ذي الآن، قد ضربت جذور الأمم، فتعلقت ببعضها وتشابكت، فلا سدود ولا متاريس، ولا موائل أو تضاريس، وعلى هذه الحال؛ فلا عقائد راسخة، ولا أعراف وتقاليد مستقرة، ولا من رأي إلا ويفنده ألف رأي، ولا من اتجاه إلا ويشككه ألف اتجاه، تنافس، تطاحن، اضطراب وفوضى، فوران وغليان، كل هذا جعل الإنسان مخلوقا أنهكه الدوران في عجلة تجري بلا هوادة، تتجه نحو كل شيء سواه، فيعطي لكل شيء قيمة ووزنا إلا نفسه، فكيف له أن يرى قيمة نفسه، وهو على هذا المقام!! كفريسة تتنازعها الوحوش الضارية من كل جانب، فغفل عن تسعير قيمة نفسه في سوق كثرت فيه السلع، فانصرف يقيم كل شيء إلا الإنسان. ذلك المخلوق الذي شرفت الأرض بنزوله من السماوات، فبارك بأقدامه الطيبة ثراها الواسع، ولا تزال الأرض مخلصة لهذا المخلوق العظيم مذ وطأها الوطأة الأولى، فكانت نعم المستضيف، شملته بكرمها وإحسانها، فاحتضنته في بطون جبالها، وسقته من أنهارها، وأطعمته من خيراتها، وكيف لا وهي المسخرة بأمره لخدمة هذا الضيف الشريف، فيمشي في أقصاها وأدناها لا يحمل هماً، وأي هم يحمله وفي السماء وعد برزقه وتدبير أمره أينما كان! فما أعظم قدره عند خالقه، الذي نفخ فيه من روحه، فكرمه وسواه فعدله، فكان أعظم الشواهد على وجوده سبحانه، فهو غاية الوجود وجوهره، فما غايته من نفسه؟! إن كانت تلك حاله، وذلك شأنه في السماوات والأرض، فبماذا يمكن أن نزنه؟ وكيف يمكن أن نقدر قيمته؟ تالله إنه فوق كل الموازين ولا يمكن أن يقدر بثمن! وإذا كان لابد من وجود ما يهم الإنسان ويُثقل به صدره – لأننا في الواقع وفي أحيان كثيرة نبحث عن الهموم أو عن أي شاغل يلهب نار خواطرنا، ونهاجس به صدورنا - فهو معرفة غايته من وجوده، ومعرفة نفسه، والتي تعني معرفة الله، ومعرفة الله تعني المعرفة والتفكر والقدرة على كل شيء، والتحرر من كل القيود التي قد تعيق طريقه إلى سبيل المعرفة، بيد أن الحال ليست كما أرى، ولم يعرف الإنسان حق قيمته بموازين السماء العادلة، وإنما احتكم إلى موازين شرعها لنفسه، فهوى بين ضرام الهموم، ومواقد الفتن، وكان فريسة سائغة للضغائن، والذل تؤام الكبرياء والغطرسة والغش والحذر المذموم، وأصبح الصدق والأمانة والعدل واللين والمحبة كعنقاء مغرب !! تلك الموازين التي فاضلت بين الناس فقدمت أصحاب المال والجاه والسلطان، سليلي النسب والحسب، أصحاب الثقافة الرفيعة والمقامات والدرجات والرتب والمناصب، أصحاب الجمال والأناقة واللياقة، فأولتهم الصدر، وأطعمتهم الشحم واللحم، أما العظام وفتات الطعام والغبيبة، فكانت غنيمة أولئك الذين يقفون في آخر الصف، لا تشفع لهم أوضاعهم ولا حتى إنسانيتهم، تلك المعايير الغاشمة، التي قدمت الموارد على أصحابها، فتناحروا على المعادن والنفائس، فسيقت أرواح الناس فداء لها، وبجلت الماديات فجعلتها أهم وأثمن من مستعمليها والمحتاجين إليها، وقيمت كل شيء بميزان لم ينزل الله به من سلطان، أما الإنسان فليس له قيمة في عالم أعظم قوة فيه هي المادة، وأضعف ما فيه هو الإنسان!!! هذا القلب السافر لميزان الحق المقدس الذي وزن الله به الإنسان، وشرف مكانته، وعظم قدره بين مخلوقاته جميعاً وإن جسمت، فجعله خليفة له على هذه المعمورة، يأتي الإنسان بجهله وعنجهيته وغروره وحماقته لينسفه نسفاً من عروقه، فلا يرضى به ولا يحتكم إليه. ويا وجعي على أجيال، توارثت هذه العقلية، بل وترعرعت في أحضان مدارس، ملأت رؤوسها بشتى العلوم، ولم تبذل جهداً في تعليمها قيمة ذواتها، وعقلها وفكرها. هذا هو عالم اليوم، الذي يعيش بذهنية التنافس والتنازع والظفر، وتتجاهل ذهنية الإنسانية والعدل والصفاء، فمن عرف قيمة نفسه عرف قيمة الآخرين، فكما يسري الدم في عروقك يسري في عروقي، وجميعنا نتشارك الأرض التي اختارها الله سكناً لنا، ونتقاسم الهواء الذي هو زاد أرواحنا، وجميعنا نحمل من روح الله المقدسة، جئنا منه، وغايتنا معرفته وعبادته، وننتهي إليه، كما خلقنا في أول صورة، فبم تمتاز عني وعنه؟؟!!