10 ديسمبر 2025

تسجيل

جائحة كورونا وتعطل قطار طموحات مبادرة الحرير

21 أغسطس 2020

منذ أن تولى الرئيس شى جين بينج مقاليد السلطة في بكين في 2013، استشعر المتخصصون بأن هناك تغيرات جذرية تلوح في الأفق في السياسة الخارجية الصينية، ودور الصين في النظام الدولي في عهد هذا الرئيس الطموح. طرح بينج في بداية عهده مبادرة الحلم الصيني التي أعلن فيها صراحة عن رغبته في أن تلعب الصين دوراً ريادياً في النظام الدولى - إن لم يكن طموح القوى العظمى المهيمنة في النظام الدولى- وفى 2015، خرج بينج علينا بمبادرة طريق الحرير الجديد، التي يطلق عليها أيضاً مبادرة الحزام والطريق لتجسد أكبر مبادرة طموحة في تاريخ الصين على الإطلاق، وأكبر تجمع اقتصادي عالمي في التاريخ أيضاً. فالمبادرة باستثماراتها التي تتجاوز التريليون دولار، وعدد أعضائها الذي تجاوز 70 دولة، بما في ذلك دول أوروبية، ونطاقها الجغرافي الذي يمتد إلى ثلاث قارات، تجسد وبحق العمود الفقري للصين لتحقيق حلم قيادة النظام الدولي. وتقدم الصين عبر المبادرة نموذجاً جديداً لتحقيق القيادة أو الهيمنة العالمية عبر البوابة الاقتصادية أو ما يطلق عليه البعض الهيمنة الناعمة، فالمبادرة ببساطة ستعمق من الحضور الاقتصادي للصين في العالم على نحو مأهول عبر سلسلة من مشروعات البنية التحتية والمعاملات التجارية والقروض والمساعدات السخية، ومن ثم سيتحول هذا الحضور الاقتصادي إلى نفوذ جيوسياسى وشراكات غير متكافئة تمكن الصين من فرض خياراتها وهيمنتها على دول المبادرة، بسبب حاجة الأخيرة الشديدة للاستثمارات والمساعدات والقروض الصينية في ظل الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها معظم دول العالم ولاسيما الفقيرة منها منذ الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008. قبيل أن يستفيق العالم على كابوس جائحة كورونا في مارس من هذا العالم، كان قطار التوسع المهيمن لمبادرة الحرير يسير بسرعة الصاروخ، فوفقاً لأحد استطلاعات شركة سيمنز الذي أجري في يناير من هذا العالم، خططت الصين لضخ استثمارات بنية تحتية في دول المبادرة بما يقدر بتريليون دولار خلال الأعوام السبعة القادمة، وبطبيعة الحال، لم تعرقل جائحة كورونا مسار قطار المبادرة بشكل مؤقت فقط، بل أثارت معها تكهنات بشأن إمكانية تعطله لمدة طويلة وربما توقفه تماماً. وواقع الأمر إن التكهن بالتداعيات الخطيرة للجائحة على مستقبل المبادرة ينبغي ألا ينحصر في الرؤية الضيقة بالتعطل المؤقت لمشروعات المبادرة في ظل قيود منع السفر والعمل وغيرها، بل ينبغي استقراؤه من خلال معطيات أوسع فرضتها التداعيات الاقتصادية الخطيرة للجائحة على الصين وجميع دول المبادرة، والتي ربما ستستمر لعقود حتى يستفيق العالم من كبوتها، فالصين لم تكن بمنأى على الإطلاق من التداعيات الاقتصادية الخطيرة حيث تشير التقديرات إلى تراجع النمو الصيني إلى ما دون 3 بالمائة بسبب الجائحة، وربما وفقاً لتلك التقديرات، ستحتاج الصين إلى عقد من الزمان لاستعادة معدلات النمو إلى وضعها الطبيعي أي فوق 10 بالمائة سنويا. وهذا بدوره لابد أن يكون المنطلق الرئيسي للتكهن بمستقبل المبادرة، فالمبادرة تعتمد تماماً على الأموال الصينية، وبالتالي في ظل هذا التأزم الاقتصادي الذي تئن منه الصين، سيكون مصير العديد من مشروعات البنية التحتية للمبادرة مثار مراجعة وربما توقف تام مما سيفقد الصين الكثير من نفوذها وهيبتها في بلدان تلك المشروعات. فمؤخراً ألمحت بعض الشركات الصينية العاملة في مدينة الحرير في الكويت عن احتمالية عدم استكمال المشروع، وتزامنت هذه التلميحات مع تلميحات مشابهة لبعض البنوك الصينية الممولة لمشروعات المبادرة على احتمالية إيقاف تمويل بعض المشروعات، والعمل على انتقاء بعض المشروعات بعينها لتمويلها دون غيرها. وعلى الجانب الآخر، تشكل جائحة كورونا ضربة قاضية في حرمان الصين في تعميق نفوذها في الدول الفقيرة في سياق المبادرة - الأكثر استعداداً لتقبل الهيمنة الصينية - عبر القروض الميسرة طويلة الأمد والمساعدات السخية لهذه الدول، بل والأخطر من ذلك، قد طالبت بعض من هذه الدول، ولاسيما من أفريقيا، الصين بإعادة التفاوض بشأن جدولة طويلة الأمد لهذه القروض وإلغاء بعضها، مما يقطع الأمل تماماً في منح الصين لقروض إضافية أخرى لتلك البلدان، وربما إلغاء التعاقدات تماماً بشأن مشروعات في سياق المبادرة، سبق وقد ألمحت الصين بعدم جدواها كمشروع القطار القياسي في كينيا. يبقى في هذه المسألة أن نشير إلى أن التداعيات الاقتصادية لكورونا التي أصابت جميع بلدان المبادرة قد خلقت بيئة غير مشجعة على الإطلاق لاستكمال مشروعات المبادرة، فحكومات تلك البلدان باتت تواجه أولويات مختلفة تماماً تنحصر تقريباً في سد فجوة الإنفاق المتزايد والاستعادة التدريجية لاقتصاداتها المنهارة. وأخيراً، لا جدال أن تداعيات جائحة كورونا ستشكل أكبر تحد على الإطلاق لمبادرة الحرير وبالتبعية تطلعات الصين بأن تكون القطب المهيمن على النظام الدولي، يجب أن نضع في الاعتبار دائماً أن مسألة الاستقرار الداخلي في الصين تشكل الهاجس الأكبر للحزب الشيوعي الحاكم، فشرعية الأخير مستمدة من تحقيق أكبر قدر من الاستقرار والنمو الاقتصادي، وبالتالي في ظل تداعيات كورونا الاقتصادية على الصين، سيعيد الحزب الحاكم ترتيب الأولويات ليصبح الاستقرار في المقدمة على حساب المبادرة وتطلعات الصين للهيمنة العالمية.